كما أنه لا يمكن أن يكون هناك علم من دون علماء أو هندسة من دون مهندسين أو طب من دون أطباء.. فكذلك لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية من دون ديمقراطيين.
هذه حقيقة الحقائق في علم السياسة الاجتماعي فلا داعي لأن نخدع أنفسنا ونضلل الآخرين من البسطاء معنا في الحديث السجالي عن الديمقراطية مع شرائح وفئات وقوى لا تعترف بالديمقراطية أصلاً وتعتبرها أصل الداء والبلاء، فظلت تعاديها وتكافحها كما تكافح الأمراض الوبائية الخطيرة.. ولا يمكن أن نخدع أنفسنا مرة أخرى فنصدق أن مثل هذه القوى والحركات تحولت بين يوم وليلة الى حركات وقوى ديمقراطية.
لا يمكن التعويل والاعتماد وتوقع نهضة ديمقراطية حقيقية تؤسس وتنجز مجتمعاً ديمقراطياً أو دولة القانون والمؤسسات في عالمنا العربي، وفي منطقتنا، من مجموعة قوى اعتلت الموجة الديمقراطية العربية والعالمية في انتهازية نفعية ضيقة لتمكين جماعاتها واحتلال المواقع المتقدمة في صنع القرار، بما يصب في مصالحها الخاصة والذاتية ولخدمة مشاريعها التي هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية أو عن تهيئة مناخ ديمقراطي مدني عصري يستوعب كل التلاوين ويعترف بكل الأطياف السياسية والمجتمعية بما يفتح فضاءً لقيام مجتمع مؤسساتي تعددي عريض وواسع.
ثم كيف نقنع أنفسنا نحن العرب بالوصول الى مجتمع ديمقراطي ونحن نمارس أقصى أشكال إلغاء الآخر.. بينما الأنظمة العربية التي ترفع شعار الديمقراطية تحاصر الديمقراطيين الحقيقيين وتستبعدهم من دائرة اهتمامها وتعاونها وتفاهمها، لتفتح جسوراً وتقيم قنوات مع »الديمقراطيين الطارئين« النفعيين والوصوليين منهم والذين يعرفون من أين تؤكل الكتف العربية، فظلوا يأكلون على كل الموائد العربية وفي مختلف ظروفها.
فيصفقون ويهللون اذا ما صادرت الأنظمة الديمقراطية وألغتها ويترشحون ويفوزون اذا ما أعادت تلك الأنظمة الديمقراطية.. فالمهم لديهم أن تظل الموائد عامرة وأن يظلوا يتصدرونها ويأكلون دون الغير فوقها.
كيف نقنع أنفسنا نحن العرب بالوصول الى مجتمع ديمقراطي تعددي بينما المناخات والأوضاع العربية بعمومها تترصد وتلاحق وتصادر التفكير الحر المستقل، وتجرجره قسراً وقهراً للعودة الى »بيت الطاعة«، فتمنع السؤال لصالح الجواب الجاهز المعلب ليغدو النقل بديلاً أصيلاً للعقل.. وتصبح »لماذا« ممنوعة من العبور ومصادرة من الثغور ومطلوبة في كل المخافر العربية بعد أن تم تجييش وتحريك التظاهرات الشعبية الواسعة ضدها.
»فلماذا« التي أطلقتها المرأة العربية وهي تطلب استعادة مواطنتها وحقها وحرية قرارها وخيارها.. قمعها وصادرها »الديمقراطيون الطارئون« فجّيشوا الجيوش ضدها وسارت تظاهرات التنديد بها مستخدمة أعتى وأمضى الأسلحة تلك التي حملت اتهامات »التفسيق والانحلال والتفريط«.
فكيف نقنع أنفسنا نحن العرب بإنجاز مجتمع ديمقراطي تعددي بينما »الديمقراطيون الطارئون« ينجحون في تدشين عريضة »شعبوية« تطالب بإعادة محاكمة طه حسين واحراق مجلدات ألف ليلة وليلة وكتب ابن عربي وابن رشد، فيما يحتفلون سراً وعلانية بمدى سيطرتهم على وسائل الاعلام وأجهزة التعليم في عالمنا العربي، وتنفذهم وتمكنهم من أجهزة أخرى.
ومن هنا نقول لا يمكن اختزال المسألة الديمقراطية في صناديق الاقتراع.. فثمة ديمقراطية اجتماعية مفتقدة محاصرة وملاحقة ومصادرة في فضائنا الاجتماعي العربي لصالح وصايات مجتمعية فرضت نفسها على الوعي العربي العام وقادته الى حيث يناصر الديمقراطية لكنه ينتخب أعداءها.. وهو وعي عربي معكوس ورهان خاسر فلا ديمقراطية من دون ديمقراطيين…
sadaalesbua@alayam.com
* البحرين