إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
هناك في الموضأ، تبادل الجميع همسا الأخبار، ويا لها من اخبار. كانت مليئة بالقهر والسحل والقتل والرصاص والدمار والاغتصاب والاعتقال، واغرب ما فيها حليب الاطفال.
روت احداهن عن “أم حسين”، التي نضب حليبها ولم تعد قادرة على إرضاعه، والذي لا ذنب له الا انه ولد في تلك المدينة وذلك الزمان! بعد نضوب حليبها، لجأت ام حسين الى الماء والسكر لارضاع طفلها الجائع الباكي ليلا نهار.
حاولت ذلك لعدة ايام حتى بدأ التعب والنحل على الطفل الباكي، وبكاؤه لايتوقف ابداً. لم يتوقف عن نداءاته لامه من اجل ذلك ولا ادري كيف كانت تقاوم آلامها وخوفها من القصف والرصاص. يبدو انها خاضت معركة بين نفسها وبين حليب حسين، او انها كانت تعتقد باقتراب نهاية المجزرة حتى تطعم ابنها المسكين. وربما اعتقدت انها ما زالت تسيطر على سلامته، واخيرا انتصرت أمومتها على كل شيء بلحظة يقين تام،
وغادرت البيت مسرعة والرصاص والقصف يتصاعد ويهبط وهذا ما كان دائما طيلة المجزرة التاريخية.
الام لم تعد تسمع الا صوت طفلها الباكي والذي كان ممزوجاً بأصوات المكان. ولكن جميع الاصوات لم تصل الى قلبها سوى صوته المستغيث. لم اسمع ذلك الصوت بذاته ولكن سمعت موسيقاه كثيرا هناك…..
خرجت من منزلها وهي تصرخ وتنادي اهل الحي او على الاقل من بقي منهم حياً.. وهناك تحت هذا الدمار جف حليب الاطفال في الصدور، ولم تجد لحسين الا دموعها وعلمت ذلك بعد استجابة البعض الحي هناك. ومنهم من روى.
تنقلت الام بين البيوت المهدمة ومنها الى الأحياء المجاورة، وقصدت اقرب صيدلية. تخيلوا مشاعرنا خلال طريقنا الى أي صيدلية، وروحنا كبشر وبشكل دائم تسبقنا الى هناك، وعقلنا يختار ما نريد قبل وصولنا، وغالبا ما نفترض مسبقا اننا حصلنا على مانريد من الصيدلية. وربما مرة على الاقل وصلنا الى الصيدلية ولم نجد ما نطلبه، ويا له من احباط.
وصلت ام حسين الى المكان ولكنها لم تجد الصيدلية، وبالنتيجة لم تجد حليب حسين. هذا احباط بائس بل كان موتاً مريراً.
وتابعت البحث عن صيدلية اخرى واخرى. تابعت الصراخ ولا من مجيب. حليب الاطفال والدواء ركبت سيارات الجيش ولا ندري اين جهة الرحيل.
لم تستمع الام الى اعلان “حميدو” عندما اخبرنا ان “التتار” لايترددون بفعل شيء ويسرقون حتى رائحة الاجساد الحية وينشرون رائحتهم الكريهة في كل مكان.
ناضلت الام وأسرفت بالنضال، وربما وعدت طفلها انها ستأتيه بما يريد، هي التي وعدت الله ان تفعل ذلك عبر حياتها وقبل ان يولد حسين…
وهذا حال جميع الامهات، لكن قلبها اعادها اليه مسرعة وباكية ومحبطة منكسرة خائفة.
واكثر من كل ذلك انها مشتاقة لحسين الباكي. في رحلة الذهاب والعودة تضاعف ألمها برؤية الاجساد مرمية وممزقة مفجرة مقطعة…..
عادت بشوقها الكبير، لم يخطر ببال الأم الهروب خارج دائرة القتل، وهي التي اقتربت من اطراف المدينة. يا له من جنون…
بلحظة دخولها الى منزلها نصف المهدم، تزايد انتصار الرصاص على صوت طفلها، وباقترابها اكثرمن حجرته، كان انتصار الرصاص كبيراً، الى ان ادرك صمته العنيف. امام تزايد الرصاص لا ادري ان كان صمته يشبه صمت حميدو ايضا.
لقد ارادوها حربا ضد الاطفال.
ابتسم الطفل الباكي وترك المدينة المستباحة لنا.
قرأت الفاتحة على روحه الطاهرة ولم تتوقف الأرواح على الدخول تلك القراءة فقد كانت تتزايد بكل لحظة واخرى. لا استطيع ان احصر على من قرأت هناك..
ولم يتركوا شيئا من عبثهم اللانساني. فقد اسكتم ذلك الطفل حينها الى النهاية، وهذا مايعتقدونه دائما، والله انهم يخافون من حسين اكثر مما يخافهم..
وكنوع من الصدى اليوم، وفي بداية ثورتنا المنتصرة، تعالت اصوات اطفالنا بدرعا. كان بيان “الحليب لاطفال درعا”. عندها حاصرتني هذه الذاكرة المؤلمة، وبقيت لايام أتوه وأنجو قليلا من هذا العذاب، ولكنني اعرف هؤلاء القتلة عرف اليقين.
اخذت هذه الذاكرة تطرق على جدران رأسي و”بيان الحليب” يخنقني لأوقّع عليه، ودام هذا الصراع والالم ومعرفتي المسبقة بهولاء القتلة وهم لا يستحقون الرجاء.
واكتشفت عندها بصياغة البيان اعترافاًُ بهم كبشر، وأنا لم ولن اعترف بهم يوما. ترددت وبكيت وكيف بي اوقّع على بيان يخاطبهم كنظام، وانا لا اعترف بهم أبداً واريد اسقاطهم منذ ذلك التاريخ، موت حماه وابي وحميدو وحسين..
<img2227|center>
كانت ذاكرة حسين بحماه تخنقني من جهة وكان يقيني ومعرفتي بـ”التتار” يضاعف اختناقي، وانتصرت التجربة في رأسي. ولم اوقع، ولم استنهض انسانية هؤلاء القتلة غير الإنسانيين، وكيف بي ان اوقع بعد توقيعي على رحيلهم قبل ذلك. وربما وقعت وانا لا ادري! كانت معرفتي بهؤلاء المجرمين بمكانها ولم يستجيبوا لأي نداءات واقسم ان هذا النظام بالمسمى فقط لا يستحق المخاطبة اوإلباسه ثوب الانسانية. ولقد اثبت ذلك بالثمانينات وبإصراره الاكيد، وربما قبل ذلك ،بان الانسانية لم تمسهم يوما وثوبها اكبر من حجمهم الجرثومي.
اعذروني، واصفحوا عني، يا اطفال درعا.
قاطعت احدى النساء كل هذا ببكائها المتعالي، حيث كانت تسكن منطقة وسط مدينة حماه وهناك عمارات وليس بيوتا عربية. دخل الجنود باقتحامهم العنيف لجميع الشقق ودخلو شقتها وفتشوا وكسروا ودمروا يبحثون كما يزعمون على السلاح. لم يجدوا سلاحا ووقتها، لن يجدوا لاننا نعلم بعدم وجوده. لقد بثوا كذبهم وعمموه وبعدها صدقوه. واثناء تفتيشهم لبيتها وقبل هروبها الى شمال المدينة لنلتقي في الموضأ، سمع الجنود صراخ طفل صغير في الشقة المجاورة. ركض الجنود الباسلين اليه مباشرة. وهنا اعتقدت، كما يعتقد جميع البشر، انهم استجابوا لصراخه كنوع من الانسانية التي لم تصبهم يوما. كسر الجنود الباب وبدأوا يكسرون كل ما في الشقة. ولم يتوقف صراخ الطفل عن البكاء. يرتفع صوت الام وهي تترجى وهي تصرخ وتعالى صوتها وصوتهم، بعدها سكت الجميع وبقي صوت الام تصرخ وتصرخ، هجمت الام عليهم…. هرب الجنود منها وكسرت بطشهم وموجة من الصراخ والبكاء والأم تركض الى اسفل المبنى. لم يفهم الجيران ماذا يحصل…!!!! وبعد نصف ساعة من السكون المخيف، عادت الام وهي تحمل ما تبقى من طفلها!
وعلمت الراوية ان الجنود كانو يطلبون من الأم اسكات الطفل، وحاولت ذلك. لم يستجيب الطفل الباكي لتهدئة امه، ربما علم بوجودهم المقيت، كان يصرخ في وجههم ويتحدى اجرامهم ببراءته وطهره، او قاومهم على طريقته، ولكن الجنود الاوغاد لايفهمون لغة الاطفال ابدا..
قام احد الجنود باتنزاع الطفل من امه ورماه بكل اصرار من النافذة.
طار الطفل، وبعدها سكت.لا ادري كيف تعاملت الام مع هذا المنطق الاجرامي غير المتوقع. ولم يخطر ببال أي شخص في عالمنا ان يتصرف بهذه الطريقة. حاولت الراوية مساعدة الام المفجوعة ولكن دون جدوى. لا تريد مغادرة المكان! وعلمنا بعد المجزرة انها بقيت هناك لتلحق طفلها الى السماء.
كيف استطاع ذلك المجرم ان يرمي بطفل بهذه الطريقة…؟ كيف..؟ كأن ترمي وردة من النافذة او ترمي عصفوراً، وانت تعلم انه يطير. لم يكون ذلك الجندي غبياً، بل كان مجرما بامتياز، يقتدي بقادته المجرمين.
واقسم ان هذا غيض من فيض ما حصل في حماه 1982.
يتبع
لم تكن يوماً فارساً يا “باسل” وما هكذا تكون الفروسية: عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماه (6)
أبي الذي قُلِعَت عيناه ورُمي لأنه طبيب: عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماه (5)