ثمة ما يشبه فضيحة معلنة، يعرفها الجميع، لكن أحدا لا يوليها ما تستحق من اهتمام، والأهم أن أحدا لا يقطع نصف المتر الأخير للحصول على الاستنتاج الصحيح. تتمثل الفضيحة في مصير اللاجئين الفلسطينيين، الذين فروا من العراق، بعد سقوط النظام، وعلقوا على الحدود منذ سنوات، أصبحت طويلة الآن، في انتظار اللجوء إلى مكان جديد.
أخبار هؤلاء لا تحتل صدر الصفحات الأولى في الجرائد، وغالبا ما يمر عليها القرّاء في الصفحات الداخلية مرور الكرام، فهي غير مثيرة، وربما تبدو في أحيان كثيرة مثيرة للارتباك، إذ تكشف المسكوت عنه بحكم ما يتجلى فيها من تناقض بين الخطاب العروبي العام والممارسة الواقعية. الكل يتكلّم عن حق العودة، وكأنه يتكلم عن أشخاص سماويين من طينة أخرى غير الذين نعرفهم، ونعرف ظروف حياتهم.
وإذا قبلنا جدلا بالقول إن المعتدلين تعبوا من كل شيء، فإن أحدا من الحكّام الممانعين والمقاومين لا يتذكر، مثلا، إمكانية أن يدعوهم للعيش ضيوفا في بلاده وعليها، ولو على سبيل المزايدة على الآخرين. هل سيهدد بضعة آلاف من اللاجئين التوازن الديمغرافي أم سيقلبون نظام الحكم؟ ألا يثير وجودهم في معسكرات مرتجلة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الإنسانية نخوة أحد؟
لا أحد من العرب يريدهم. بمعنى آخر، وعلى الرغم من البيانات والخطب والكلام الكثير عن العروبة والإسلام، إلا أن العالم العربي ضاق بالفلسطينيين وأصبح ضيّقا عليهم. والدليل أن الدول التي منحت الفارين من العراق حق اللجوء غير عربية، وغير إسلامية. آخر الأخبار في هذا الشأن أن استراليا منحت عددا منهم حق اللجوء الإنساني، وكذلك فعلت بريطانيا، وبعض الدول في أميركا الجنوبية. والمفارقة أنهم يغادرون إلى المنافي الجديدة عن طريق مطار دمشق الدولي.
لا بأس. يمكن الاستطراد في الكلام عن العالم العربي، حيث يتساوى المعتدلون والممانعون في عدم الموافقة على منح الفلسطينيين الفارين من العراق حق اللجوء الإنساني أو “القومي” في بلدانهم.
ومع ذلك، فلنضع هذا الأمر جانبا، ولننظر إلى النصف الممتلئ من الكأس، أي إلى حقيقة انتقال هؤلاء إلى بلدان غير عربية وغير إسلامية. ففي هذا ما يشكل ضمانة أفضل لهم ولأبنائهم.
لن يعيشوا في أستراليا أو بريطانيا، أو البرازيل، وغيرها من البلدان، تحت رحمة المخابرات ومباحث أمن الدولة، ولن يضطروا للتعبير عن ولائهم للنظام القائم، ولن يجدوا ما يبرر البحث عن واسطة، أو كفيل، وإراقة ماء الوجه، للعثور على عمل، أو تمديد بطاقة للإقامة، أو التحايل على القانون للحصول على لقمة العيش، وإذا جابهوا مشكلة مع بيروقراطية الدولة يمكنهم اللجوء إلى القضاء، لن يحتاجوا إلى تصريح بالمغادرة إذا أرادوا السفر، وإلى تصريح بالعودة، وبعد سنوات قد تطول أو تقصر يمكنهم الحصول على جنسية البلد المضيف.
باختصار، سيصبح لديهم كل ما لا يتوفر في العالم العربي، وكل ما لم يحلموا بالحصول عليه في بلدان اللجوء العربية. ولكي لا نُتهم بالمبالغة ينبغي القول إن الجيل الأوّل لن يعيش حياة سعيدة فالتأقلم مع مجتمع وثقافة جديدين ليس بالأمر السهل، كما أن الإحساس بالغربة والاغتراب أمر لا مفر منه، والحصول على وظائف جيدة غير ممكن في حال عدم توّفر الكفاءة والمؤهلات الكافية. ولكن حياة الجيل الثاني والثالث ستكون أفضل ألف مرّة. سيصبح هؤلاء بريطانيين وأستراليين وبرازيليين، ولن يكفوا عن كونهم فلسطينيين أيضا.
ضيق العالم العربي بالفلسطينيين وتحوّله إلى مكان يضيق عليهم ناجم عن أمرين:
أولا، عدم احترام حقوق الإنسان ليس من جانب الأنظمة القائمة وحسب، بل ومن جانب منظومة القيم الأخلاقية والثقافية السائدة في العالم العربي. لا مكان لحقوق الإنسان كما أقرتها مواثيق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية في الثقافة العربية. أكتبُ هذا الكلام، وأعرف مسبقا كافة الردود والمرافعات في هذا الشأن، وهي، للأسف، هزيلة وغير مقنعة. ومع ذلك، لا ينبغي حصر هذا الأمر بالموقف من الفلسطينيين، فالمنظومة الأخلاقية والثقافية السائدة تفسر ضعف فكرة المواطنة في العالم العربي، وحقيقة افتقار المواطن العربي إلى ضمانات دستورية تكفل صيانة الكرامة، والحريات العامة، والحقوق الأساسية.
ثانيا، القوانين والمبادئ التي أقرتها الجامعة العربية قبل ما يزيد على خمسين عاما، بشأن اللاجئين الفلسطينيين، والتي تحول عمليا دون تمتعهم بحقوق أساسية تكلفها المعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة باللاجئين.
والمُضحك المُبكي في هذا الشأن أن الحفاظ على القوانين التمييزية التي أقرتها الجامعة العربية، يتم باسم الدفاع عن حقوقهم، وحماية مصالحهم، وضمان مستقبلهم. وقد نشأ بحكم هذا الوضع ما يشبه الواقع الافتراضي، أي الذي نراه بكافة التفاصيل الواقعية على الشاشة، والوهمي في الواقع. بمعنى أن الفلسطيني في الخطاب العام المرشح للاستهلاك القومي والإسلاموي أخ وشقيق وضيف كريم، وفي الواقع غريب غير مرغوب، أو في أفضل الأحوال شخص ينبغي التعامل معه بحذر شديد.
على أية حال، مقالة هنا أو هناك لن تغيّر الوضع. والمهم أن على عاتق منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولية سياسية وأخلاقية تتمثل في إعادة بحث موضوع القوانين الخاصة باللاجئين الفلسطينيين في العالم العربي، وفي تشكيل هيئات حقوقية وإعلامية وسياسية، وإنشاء منظمات خاصة تتولى الدفاع عنهم بما يحفظ مصلحة اللاجئ وكرامته، كما أقرتها المعاهدات والمواثيق الدولية، لا أكثر ولا أقل، بلا خجل من المعتدلين ولا وجل من الممانعين.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
لا أكثر ولا أقل..!! حضرة الكاتب، ما تقوله عن اللاجئين الفلسطينيين ينطبق على حال اللاجئين العراقيين. ونحن كعراقيين ننظر اليهم كجزء من لاجئينا ومشردينا. فهؤلاء حسب القانون عراقيين وان لم تمنح الجنسية لهم. كانوا ايام النظام السابق يعيشون كعراقيين ولهم حقوق متميزة يستحقونها باعتبارهم ابناء وطن وكذلك ابناء مأساة كلاجئين. الامر يعتمد على استقرار النظام اولا وموقف سلطات الاحتلال ومنظمات حقوق الانسان في اعادتهم الى بيوتهم واستعادتهم لحقوقهم باملاكهم. مع ان الصحافة والاعلام تتجاهلهم لكن منظمات حقوق الانسان العراقية ادرجتهم ضمن ابناء الوطن الذين هربوا بسبب الافعال الديمقراطية الايرانية للحكم في العراق والذين ينظرون حتى للطفل الفلسطيني على انه مذنب… قراءة المزيد ..
لا أكثر ولا أقل..!! مقال جيد في اطار معالجة حالة خاصة (فرعية) لمشكلة اوسع , وربما الأهم للفت النظر اليها عربيا , وتعليقي التالي في هذا الاطار : في الحقيقة ان عدد اللاجئين العراقيين سجل اعلى نسبة في التاريخ البشري حتى الآن , وهنالك اهتمام واسع بابعاد هذه المسألة تعتمد على الجهة التي تعالجها , ففي الغرب عموما وفي امريكا خصوصا تعمل المؤسسة الاكاديمية والاعلامية والسياسية بحرية غير معزولة عن الاستقطاب بكافة الاتجاهات , فللمؤسسة العسكرية (البنتاغون) مراكز ابحاث اكاديمية ويدعم اخرى ويستفيد من كل ما هو منتج ومطروح من قبل الجميع وكذلك تفعل كافة المؤسسات السياسية : ففي حين… قراءة المزيد ..