لم يعد من السابق لأوانه أن نكتب اليوم: وقعَ المتوّقَع، وانفصل جنوب السودان عن شماله. أليست هذه نهاية مُفزعة لدولة اسمها السودان؟
أولا، لأنها ستخسر بعد أيام ثلث مساحتها، وربع مواطنيها. وثانيا، لأن ما تبقى منها مرشح لانقسامات جديدة في دارفور، ومناطق أخرى.
أليست هذه، أيضا، ، ضربة موجعة لطائفة من الناس اسمها الوحدويون العرب؟
أولا، لأن الدولة “القطرية” لم تفشل في تحقيق الوحدة وحسب، بل وفشلت في الحفاظ على وحدة شعبها وأراضيها، ولم تكن دولة لكل مواطنيها.
وثانيا، لأن “الوطن العربي” الذي رسمه البعثيون السوريون والعراقيون على هيئة نسر يفرد جناحيه على قارتين سيفقد، بعد أيام، جزءا من جناحه الأفريقي، فمن المؤكد أن الانفصال لا يعني في نظر الجنوبيين الانسلاخ عن الوطن العربي الكبير بقدر ما يعني التحرر منه.
وفي خضم هذا كله، يبدو حاكم السودان عاجزا حتى عن كتمان سروره. بدلا من إقناع الجنوبيين بالتصويت ضد الانفصال، مثلا، ولو من باب رفع العتب، يحضهم عليه، فيذهب في زيارة “وداعية” إلى عاصمتهم، ويخرج وزير خارجيته على الناس بتصريح مفاده أن الخرطوم ستكون أوّل من يفتح سفارة في عاصمة الجنوبيين. كوميديا سوداء.
وهذا القدر من الكرم مثير للارتياب. فلو نجم السرور عن قناعة عميقة بحقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، لقلنا تطابق القول مع الفعل، وحقق الرجل، أخيرا، ما يريد. بيد أن حاكم السودان مطلوب للعدالة الدولية، بمذكرة توقيف رسمية، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وفي هذه التهمة، على الأقل، ما يجعل من تطابق القول مع الفعل أمراً يصعب التحقق منه.
ولماذا نذهب بعيدا طالما أن الحاكم نفسه وفّر على الجميع مشقة التفكير والتدبير. فالانفصال، وكما قال على الملأ، يعني التخلّص من ذريعة التعددية، التي وقفت عائقاً بينه وبين تطبيق الشريعة. الشريعة، إذاً، هي الجائزة التي يدفع راضياً مرضياً مقابل الحصول عليها ثلث مساحة البلاد وربع مواطنيها.
والمفارقة أن هذا القدر من التقوى، التي تبرر هذا القدر من الكرم، مثير أيضا للارتياب، طالما أن استغلال الدين لأسباب سياسية ليس ابتكارا شخصياً من ابتكارات حاكم السودان. فقد جرّب لعبة الاستغلال السياسي للدين ما لا يحصى من الطغاة والمغامرين على مدار ما لا يحصى من القرون.
فلنوجه أنظارنا وجهة أخرى:
المهم أن الانفصال لن يجعل من السودان أفضل. والاستقلال لن يكفل للجنوبيين حياة أفضل. ستُضاف دولة جديدة إلى قائمة الدول الأفريقية الفقيرة، وسيضيف المانحون الأوروبيون والأميركيون اسما جديدا على قائمة المساعدات الدولية، وستنشأ نخبة جديدة من حكّام الجنوب كغيرها من النخب السائدة والفاسدة في دول فقيرة ومنهوبة ومغلوبة على أمرها.
والمهم، أيضا، أن مئات الآلاف من الجنوبيين والشماليين سيضطرون للنـزوح في الاتجاهين هربا من الاضطهاد، وربما المجازر، بطريقة تعيد إلى الأذهان كارثة تمزيق شبه القارة الهندية، وفبركة دولة اسمها باكستان، الكارثة التي أعقبها انفصال بنغلاديش عن باكستان. في الحالتين وقعت مجازر، ومئات الآلاف من حالات الاغتصاب، وتحوّل ملايين من بني البشر إلى لاجئين.
والمهم، أيضا وأيضا، أن شبح الحرب سيخيم على الحدود الطويلة والمشتركة بين الشماليين والجنوبيين، تسديداً لفواتير نفسية وسياسية مستحقة، وتعبيرا عن مصالح ومطامع متضاربة في مناطق مُتنازع عليها. لذا، لا ينبغي أن نأخذ على محمل الجد الروح الإيجابية للجانبين في الوقت الحاضر. فلن يمر وقت طويل قبل اتضاح حجم الكارثة التي ألمت بملايين من بني البشر هناك.
ومع هذا كله في الذهن، إلا أننا لا نملك الحق في توجيه أصابع الاتهام إلى الجنوبيين، ولا في الاعتراض على حقهم في الاستقلال. فالانفصال، كما الاتحاد، جزء لا يتجزأ من حق تقرير المصير. فلو وجد الجنوبيون إمكانية التماهي مع هوية واحدة ومُوّحِدة في بلد متعدد الأعراق والقوميات واللغات، لما اختاروا طريق الانفصال.
ولعل في هذه الحقيقة ما يكفي لقرع أكثر من جرس للإنذار في العالم العربي. فهذا العالم يتشكّل في حقيقة الأمر من فسيفساء طائفية وإثنية ولغوية وانقسامات مناطقية وهويات محلية وبنى اجتماعية تشكّلت على مدار قرون طويلة. وقد أصبح في الوقت الحاضر ضيّقا على مواطنيه.
والواقع أن الدعوة إلى قرع أكثر من جرس للإنذار تبدو ممجوجة حتى بعد كتابتها بثوان قليلة. ثمة عملية تاريخية لن تتوقف قبل اكتمال فصولها. سنصل في يوم ما، ربما في النصف الثاني من هذا القرن، إلى الدولة التعددية الديمقراطية والعلمانية، ولن يتأتى ذلك قبل نهوض الحواضر العربية من ركودها، وقبل اندحار موجة الصحراء. لا بأس. ولكن فلنفكر الآن بما يلي:
تقول امرأة سبعينية تقطن قرية بالقرب من جوبا، عاصمة جنوب السودان، لمراسل جريدة الحياة اللندنية: “طلبوا مني الذهاب للتسجيل فذهبت. لا أعرف شيئا عن الاستفتاء، ولكن لا أحد يحب العرب هنا”.
لا أحد يحب العرب، هناك، وحاكم السودان مسرور.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
Khaderhas1@hotmail.com
لا أحد يحب العرب هناك..!! فاروق عيتاني — farouk_itani@live.com بعيدا عن لبنان، اهرب مؤقتا للكلام على السودان :الموضوع من اساسه: عيشة باحسان أو فراق بمعروف.لم يكن في العلاقة احسان… اذا فالفراق أحسن. وحتى يكون بمعروف، لا بد ان يكون هناك مزدوجي الجنسية بين الشمالين(قبائل المسيري) والجنوبيين من سكان الشمال.هؤلاء سوف يكونوا اهل المعروف ودوامة.كذلك فأن الصراع بين المسيحيين الجنوبيين والوثنيين،قد ظهرت بوادره، وسوف يتواصل الوثنييون مع الشمال المسلم، على عكس الحالة الحالية. امّا البكاء و التباكي على توهيمة الامة الواحدة و الندب على “الامة” هكذا مجردة و مبهمة وبدون اضافة، فالافضل التوقف عن ذلك ولنتذكران عبد الناصر هو الذي فصل… قراءة المزيد ..