ان الفردية، باعتبارها الايديولوجيا المركزية للإنسان الفرد في الحضارات قديمة ومعاصرة، تتناقض جوهرياً مع القطيعية الغرائزية، الايديولوجيا الفطرية المعبرة عن الروح الجماعية الطائفية أو الاثنية أو القومجية.
ولكنها، اي الفردية، تتانسن بمعنى تتلطف وتتروحن وتتخلى عن شيء من صرامتها حالما تتعرف على المواطنة، فتقدم تلقائيا على التنازل عن عرشها للمواطنة التي هي مركّب فريد في عبقريته إذ يجمع معا ما يستحيل جمعهما في الاصل وهما نقيضان في حالتهما الأصلية اي روح الجماعة القطيع الغرائزي وروح الفردية القابعة في فضائها العاجي.
فالفردية في درجتها الراقية لا تطمئن إلا لمركب ومفهوم أكثر رقيا وابداعا منها هو المواطنة، لأن روح المواطنة تمتاز على الفردية انها تحوز على الطمأنينة التي يفتقدها الفرد .الحر المستقل أو الفردية والتي توفرها الجماعة العاقلة المتقدمة في نفسيتها وخضوعها لقانون عام متقدم في رؤيته يساوي بين الجميع في الفرص وفي الواجبات
وهنا سر المواطنة انها تقوم على عقد عام أو قانون عام يصوغه علماء واختصاصيون في الادارة المجتمعية وفي القانون أولا. لكن السر الآخر الأكثر أهمية هو أن كل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني تقوم على تطبيق هذا القانون وتعليم احترامه ابتداء من المدرسة ووسائل الإعلام وصولا إلى الحزب السياسي… فلا عقد اجتماعي دون مواطن يتطور كل يوم علميا وتربويا وحضاريا. وهذه إحدى خصائص الحداثة أو الفكر الحر اي التدريب المستمر والتعليم الذي لا يتوقف وإعادة التأهيل الذي لا يحده عمر.
هكذا تكون المواطنة أمرا مكتسبا يقوم على الجهد الفردي إضافة لما توفره المؤسسات لأن الاحترام العام المتبادل بين المواطنين والمؤسسات لا يتم حقنه بواسطة حقن طبية للمواطنين ولكنه يتحصل بناء على الإيمان بالعقد الاجتماعي عقد المواطنة ويتحصل بالجهد الذي يبذله كل فرد إلى الدرجة التي تؤهله أن يصبح مواطنا كاملا.
الكتاب المقدس لكل المواطنين:
باعتقدنا فإن الهوية السورية يجب أن تقوم على جوهر الإنسان الفرد المواطن، اي على القاسم المفرد الأصغر المشترك بين كل السوريين. وهذا الجوهر المدني البشري هو المعادل أو الطرف الأول في معادلة كونية طرفها الآخر هو الله او القاسم المفرد الأكبر المشترك لدى كل السوريين – كوننا علمانيين، وبعضنا غير مؤمن، لا يعني أن نغفل عن كون السوريين جميعاً يشتركون في الإيمان بالله مع خلاف مسمياته أو ماهياته بين الأديان والمذاهب السورية.
هذا كلام خطير جداً لأنه ربما غير مسبوق في الطروحات الفكرية السياسية في العالم العربي. والخطورة واضحة كوننا نعتبر الفرد مقابلاً لله، وبهذا فإننا نرفع الإنسان الفرد المواطن الى مستوى اللاهوت. لكن اللاهوت الأرضي الذي يقدس الإنسان ويجعله أعلى ما في الأرض قيمة ويبني على أساسه وأساس هذه المعادلة -الإنسان الفرد المواطن- هوية جديدة لوطن السوريين ولاجتماعهم السياسي.
في منتصف الخط أو العمود بين الإنسان والله هناك المواطن، وعلى مسافة منه العقد الاجتماعي الذي هو بمثابة الكتاب المقدس الأرضي الذي يفوق كل الكتب المقدسة لأنه يحوي على روح هذه الكتب كلها من دون تعاليمهم الخاصة بكل منها.