لذلك، أغلب ما يُكتب يفتقر إلى التحليل العميق، والقراءة الموضوعية، للظاهرة المعنية. ولا يندر أن يرتكب أشخاص بنوا “مجدهم” على فرضية “التخصص” في تاريخ وحاضر المنطقة، أخطاءً تثير السخرية.
لوريتا نابليوني، مثلاً، الخبيرة في شؤون الإرهاب، تقول في كتاب بعنوان “العنقاء الإسلاموية” إن إيران وسورية هما أكبر دولتين شيعيتين في المنطقة. باتريك كوكبرن، مراسل الإندبندنت في الشرق الأوسط، نشر كتاباً تحت أكثر من عنوان، كان آخرها “صعود الدولة الإسلامية: الدولة الإسلامية في العراق والشام والثورة السنيّة“. وكما يتضح من العنوان، فإن الفرضية الرئيسة للسيد كوكبرن هي ثورة السنّة العراقيين.
ولعل أفضل مَنْ كتب في هذا الموضوع أميركي اسمه مالكولم نانس، سبق له العمل في مؤسسات أمنية أميركية في العراق، ونشر كتاباً بعنوان “إرهابيو العراق” حاول فيه تقصي العلاقة بين ما تبقى من أجهزة صدّام حسين الأمنية بعد سقوط النظام، والعناصر التي تمكنت “القاعدة” من إرسالها إلى العراق، ورصد تطوّر العمليات العسكرية ضد الاحتلال الأميركي، والأخطاء التي ارتكبتها إدارة بريمر، حاكم العراق، الذي حل الجيش العراقي، وقوّض مؤسسات الدولة.
وأخيراً، نصل إلى عربي نشر كتاباً بالعربية والإنكليزية عن داعش عنوان الطبعة العربية: “الدولة الإسلامية: الجذور، التوحش، المستقبل“، أما الإنكليزية فكانت “الدولة الإسلامية: الخلافة الرقمية“. للوهلة الأولى، يتوقع القارئ أن تنسجم الطبعتان العربية والإنكليزية في النص، والتحليل، والأفكار الرئيسة. وفي الواقع تختلف الأولى عن الثانية نصاً وروحاً.
ومع ذلك، يقول السيد عبد الباري عطوان في الطبعة العربية إن “الدولة الإسلامية تقوم على نصف العراق، ونصف سورية”، أما في الطبعة الإنكليزية فنجد الصيغة التالية: “تقريباً على نصف سورية، وعلى الأقل على ثلث العراق”. والأهم، ما جاء في الطبعة العربية: “تنظيم الدولة الإسلامية لم يكن نسخة جديدة من تنظيم القاعدة، وإنما يشكل نموذجاً مختلفاً من حيث الأيديولوجية، والنشأة، والأولويات”، بينما في النص الإنكليزي: “الدولة الإسلامية هي أحدث وأخطر تجسيد لحركة الجهاد العالمية، التي أنشأها أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، في العام 1998”.
الفرق بين الصيغتين واضح، فمَنْ هي الصحيحة. المهم، الهم الرئيس في الطبعة العربية، التي يواظب على الحضور في ثنايا الكتاب يتمثل في التوحّش، الذي يحاول الكاتب العثور على ما يبرره، في عهد صدّام حسين مرّة، وفي الطبيعة العراقية القاسية مرّة، وحتى في نوعية البشر، الذين جاءوا من الجزيرة العربية، في زمن الفتوحات الإسلامية، لتعليم العراقيين مبادئ الفقه والإسلام.
أما الطبعة الإنكليزية فإن همها الرئيس يتمثل في الحداثة التقنية للدواعش، ونجاحهم في الاستفادة من تقنيات الاتصال الحديثة، والإفلات من السلطات والآليات الرقابية المفروضة على مستخدمي الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعية. ويعود هذا، في جانب منه، إلى الكفاءة التقنية للمسؤولين عن الدعاية، والتحريض، والتجنيد، في تنظيم الدواعش.
وقد تكررت في الطبعتين العربية والإنكليزية الإشارة إلى أن خلافة الدواعش دولة، بحكم الأمر الواقع. قبل الكلام عن هذا الموضوع فلنقل إن كلمة الإرهاب، كلما ألصقت بالدواعش في النص العربي تأتي بين مزدوجين، للتدليل على كونها إشكالية في أفضل الأحوال. وهذا ما لا تشكو منه الطبعة الإنكليزية، التي تبدو حيادية، وفي حالات بعينها تأسف لأن السلطات الرقابية في الغرب، لا تستطيع مراقبة الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعية، للحيلولة دون نجاح الدواعش في تجنيد شبّان وشابات في الغرب. وهذا ما لا يرد ذكره في الطبعة العربية.
المهم أن نابليوني، وكوكبرن، ونانس، يكتبون عن الدواعش باعتبارهم جماعة إرهابية متوحّشة، ولا يمكن العثور على أدنى قدر من التعاطف معهم، وحتى فكرة “الدولة” الجنينية التي تعترف بابليوني بتشكلها على الأرض، تندرج في سياق البحث عن آليات وسياسات تكفي لتدميرها. وفي المقابل ينخرط السيد عطوان في مرافعة قانونية مستشهداً بمعاهدة سبقت الحرب العالمية الثانية حول شروط قيام الدول، وعدم حاجتها للحصول على اعتراف من أحد، فحتى الأمم المتحدة (كما يقول) لا تملك هذا الحق.
وهنا تكفي الإشارة إلى ما كتبه الخبير في القانون الدولي، توماس غرانت، الذي يرفض تسمية الدواعش بالدولة، ويحذر من خطورة أمر كهذا في العلاقات الدولية، أما المسوّغات التي ساقها فتتمثل في موقف القانون الدولي، بعد الحرب العالمية الثانية، من عدم جواز احتلال أرض الغير بالقوّة، وحقيقة أن الدواعش يقوّضون دولاً قائمة، مُعترف بحدودها، وأن “دولتهم”، التي تتبنى أيديولوجيا القرون الوسطى، منافية لكل قيم ومبادئ القانون الدولي والإنساني، ولا يمكن أن تحظى باعتراف أحد، علاوة على حقيقة أنها لا تمثل إرادة السكّان الذين سيطرت عليهم.
“دنيا” كما تقول صاحبتي المستشرقة. وهذا كل ما يمكن أن يُقال، الآن، عن كتب في عُجالة.
الكتب عن داعش (بالإنكليزية، ولغات أوروبية كثيرة) أكثر من الهم على القلب. ولهذا الأمر علاقة بقانون العرض والطلب. فمنذ استيلاء الدواعش على الموصل، وترويج مشاهد الذبح، والسبي، وتدمير الآثار، نشأت حاجة لدى ما لا يحصى من بني البشر، للاطلاع على حقيقة هذا الوحش، الذي يهدد بتقويض الشرق الأوسط، على من فيه، وما فيه.