(لوحة “سقوط أريحا” لـ”رافاييل”)
*
نطرح هذا السؤال في ظل توالي الجرائم الارهابية للمنتمين للتيارات الدينية، واستسهالهم ممارسة القتل الوحشي المجرّد من مختلف الصور الإنسانية. لا نقصد بذلك ما يرتكبه جهاديو تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) وتنظيم القاعدة وحركة طالبان فقط، إنما نقصد جرائم العديد من المنتمين إلى التنظيمات الدينية في الضفتين الشيعية والسنُية. ورغم سيطرة الجانب النسبي على الجرائم، إلا أن جميعها تدخل في خانة الأمر المهول، وتنتمي تبريراتها إلى نفس الوضع. بل هناك ممارسة فعلية لجرائم حرب.
يقسّم بعض الباحثين الجرائم التاريخية إلى ثلاث: جرائم ارتكبها غير المتدينين. جرائم ارتكبها المتدينون، لكنها لم تحمل أسبابا دينية. جرائم ارتكبها المتدينون لأسباب دينية. وما يهمنا هنا هو الجانب الثالث، الذي ينتمي إلى سؤالنا.
فكيف لإنسان متديّن أن يقدم على ارتكاب جريمة إرهابية لأسباب دينية؟ كيف يستخدم الشعارات الدينية والغيبية كدافع لارتكاب تلك الممارسات الشنيعة، كترديده لفظ “الله أكبر” أثناء ممارسته للبشاعة، وأن وعد “الجنة” بانتظار منفذ الجريمة إذا ما قُتل؟ كيف له ألاّ يعتبر الدين عاملا مساهما في منع الإنسان من ارتكاب أفعال غير أخلاقية؟ هل الدين بات بالنسبة إليه عاملا مساعدا في تهذيب العواطف وتلطيف المشاعر، أم عاملا مساهما في إقساء القلوب؟
الإنسان قد لا يحتاج إلى توجيه من الآخرين لإثبات مشاعره الإنسانية، فهو مفطور على ذلك، يدرك الخير والشر، الحب والكره، المداراة والقسوة، ويستطيع أن يفرق بينهما دون حاجة إلى شيء يوجهه إلى ذلك. لذا نسأل التالي: هل الدين أصبح عاملا مساهما في تبدّل هذه الفطرة والتأثير على الوجدان الإنساني وتغييره إلى شيء يفتقد للرحمة؟ هل وصلنا إلى مرحلة ندين ونسخر من العبارة المشهورة التي تقول بأن الإنسان المتديّن يعيش بصورة إنسانية أكثر من الإنسان غير المتديّن؟ هل ندافع عن الجملة التي تقول بأن الدين يساهم في تغيير الصورة الفطرية لأخلاق الإنسان؟
بعبارة أخرى: هل يأمر الدين الإنسان أن يأخذ فهمه حول الخير والشر أو حول الحسن والقبح من الدين نفسه ومن التاريخ الديني، وأنه لا حاجة في ذلك لفطرة الإنسان أو لعقله أو لواقعه الذي يعيش فيه؟
في نظر الكثير من الباحثين، تعتبر الأخلاق أحد نتاجات الدين، وقد تعتبر جوهر الدين لدى البعض. لكن تصرفات غالبية كبيرة من المتدينين، تؤكد وجود هوة واسعة بين تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية، وعلاقة ذلك بتقييمه للخير والشر أو الحسن والقبح، أي بتحقيق الفضائل الأخلاقية. والأمثلة على عدم التزام المؤمنين بتلك الفضائل وعدم الالتفات إليها حين السعي لتحقيق ما جاء في فهمهم للشريعة، عديدة. فما يمارسه الداعشيون والقاعديون والطالبانيون وأنصار الله وأنصار الشريعة والحزب اللهيون وعصائب الحق وغيرهم شاهد على ذلك.
والأسئلة التي قد تطرح هنا مجددا هي: هل مخرجات تنفيذ أحكام الشريعة يجب أن تكون أخلاقية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فهل الشريعة هي التي “تتبع” الأخلاق، أم أنها “تؤسس” للأخلاق؟
هناك رأيان مختلفان حول الموضوع. الأول يرى أن تنفيذ أحكام الشريعة لابد أن يسير بموازاة تقيد المؤمنين بالأسس والفضائل الأخلاقية المسيطرة على واقع الحياة وعلى ظروفها الراهنة، وأنه يجب ألا يتم القفز على ذلك الواقع وعلى تلك الظروف. بمعنى أن أخلاق المجتمع مرتبطة بالواقع وظروفه لا العكس، وأن تنفيذ أحكام الشريعة يجب أن يسير في إطار احترام الواقع والظرف الاجتماعي. أي أن الأطر الأخلاقية الواقعية المسيطرة على المجتمع هي التي يجب أن تحدد ما يجب أن ينفذ من أحكام، وكيفية التنفيذ، وما يجب أن يُعاد فهمه من أجل أن يلائم الواقع. فالشريعة هي التي يجب أن “تتبع” الأخلاق.
أما الرأي الثاني فيرى أن تنفيذ أحكام الشريعة غير مرتبط بأخلاق المجتمع وظروفه، بل لابد من تنفيذها تحت أي شرط، وأنها – أي الأحكام – لا تخضع لأمر الواقع وأخلاقه وشروطه، كخضوع المجتمعات في الوقت الراهن لظروف المفهوم الأخلاقي الحديث لحقوق الإنسان. فالشريعة هنا “تؤسس” للأخلاق.
إن أنصار الرأي الأول يعتقدون أن الشريعة التي يجب أن تفرض رأيها على الواقع، هي شريعة العقل، التي تستلهم أفكارها من الثقافة الجمعيّة المسيطرة على الحياة الراهنة، وأن هذه الشريعة سوف تنتصر على شريعة النقل (شريعة أنصار الرأي الثاني)، التي تستلهم أفكارها من التاريخ غير مبالية بظروف الواقع وتطوره وتغيره. لذا يعتقد أنصار الرأي الأول أن العدالة، في المسائل المتعلقة بالواقع الاجتماعي وظروفه، لها أولوية على الشريعة. بمعنى أن “تنفيذ الأحكام الأخلاقية العادلة” أهم من “تنفيذ الأحكام الشرعية التاريخية”، وأن الرجوع إلى العدالة من أجل تنظيم حياتنا الاجتماعية يسبق الرجوع إلى الشريعة.
من هذا المنطلق، يعتقد أنصار الرأي الأول أن حقوق الإنسان تتقدم في الأهمية على حقوق الله. بمعنى أن الدفاع عن حقوق الإنسان يؤدي بالضرورة إلى رضا الله، وأن الإضرار بحقوق الإنسان وفق الواقع الذي نعيش فيه يؤدى بالضرورة إلى سخط الله وعدم رضاه. فالأخلاق المتعلقة بحقوق الإنسان تأتي في مرتبة أعلى من الأخلاق المتعلقة بحقوق الله. لماذا؟ لأن احترام القيم الإنسانية هو مقدمة ضرورية للإيمان بالله أو التديّن، فهي – أي القيم الإنسانية – تعتبر منبع الأخلاق في العالم الحديث وفي الحياة الجديدة، وبالتالي هي أحد الطرق نحو فهم ديني أعمق.
فالتديّن، أو بناء علاقة روحية عميقة مع الله في إطار ظروف الحياة الراهنة، من دون أن يسبق ذلك احترام حقوق الإنسان، قد يتشابه مع أي مسعى معنوي غير واقعي لا يمت بصلة لظروف الحياة ولا يستطيع تحقيق أي قيمة أخلاقية فيها. أي أن التدين الذي يتشكل في الحياة الجديدة، أو في ظل الحداثة، لابد أن تكون له أهداف متعددة من ضمنها تحقيق الفضائل الأخلاقية الواقعية، ومن تلك الفضائل احترام حقوق الإنسان وفق منظورها الحديث.
في حين أن التديّن الذي لا تكون محصّلته تحقيق فضيلة احترام حقوق الإنسان، لن تكون مخرجاته إلا سلوكا تاريخيا يتعارض مع السلوك الإنساني الراهن وظروف الحياة الراهنة، وفي أغلب الأحيان قد يشكل تهديدا للأمن الاجتماعي. وعلى هذا الأساس لم نقرأ في كتب التاريخ بأن قطع الرؤوس في الماضي الديني في ظل ممارسات المتدينين لتنفيذ أحكام الشريعة وصولا إلى تحقيق الفضيلة كان عملا غير أخلاقي، بينما بات هذا السلوك في الوقت الراهن وحشيا وشنيعا وغير أخلاقي وفي الضد من الفضيلة واحترام حقوق الإنسان. لذا لن يعتبر المتديّن الذي ينفذ شريعة قطع الرؤوس أو الذي يرضى بذلك، ذلك العمل غير أخلاقي وفي الضد مما يريده الله من دون أن يعمل على تغيير نظرته للفضيلة الأخلاقية.
كاتب كويتي
fakher_alsultan@hotmail.com