كيف يمكن للفلسطينيين، أو على الأصحّ لبعضهم، خدمة للإحتلال الإسرائيلي عن قصد أو غير قصد؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. ولكن ما لا بدّ من ملاحظته أنّ خدمة اسرائيل ومشروعها التوسّعي لم تتوقّف يوما منذ قرار التقسيم في العام ١٩٤٧. أعطى هذا القرار الفلسطينيين دولة. أضاعوا الدولة “العربية”. لم يستوعبوا وقتذاك، مع معظم العرب، أنّ خريطة المنطقة رسمت في العام ١٩١٦ (سايكس ـ بيكو) وأن الوعد بـ”الدولة اليهودية” الذي صدر عن اللورد بلفور في ١٩١٧جزء لا يتجزّأ من سايكس ـ بيكو الذي في اساسه الكيانات القائمة في الشرق الأوسط. لم يوجد من يستوعب العلاقة بين سايكس ـ بيكو من جهة ووعد بلفور من جهة أخرى.
خسر الفلسطينيون بسبب رفضهم ايجابيات قرار التقسيم فرصة إقامة دولتهم المستقلة. فضّلوا على ذلك الرهان على الأوهام وخسارة جزء من الأرض في ١٩٤٨ والجزء الباقي من فلسطين التاريخية في حرب الأيام الستة عام ١٩٦٧.
ما زالوا يخسرون إلى اليوم. قال الملك حسين، رحمه الله، في خطاب مشهور له في تسعينات القرن الماضي ما معناه أنّ العرب لم يدخلوا يوما في مفاوضات مع اسرائيل وكانوا في وضع أفضل من ذلك كانوا فيه في مفاوضات سابقة. أراد القول بصراحة أنّ الوقت لا يعمل لمصلحة العرب وأنّ اسرائيل تستفيد من الوقت لخلق أمر واقع وتكريسه على الأرض، أي على أرض فلسطين…على حساب الفلسطينيين.
لم يستطع الفلسطينيون الإستفادة حتّى من اتفاقي كامب ديفيد اللذين وقعتهما مصر مع اسرائيل في أيلول ـ سبتمبر من العام ١٩٧٨. ولمن لديه بعض الذاكرة، وقّعت مصر رتّفاقين في عهد أنور السادات برعاية أميركية ( الرئيس كارتر). كان ذلك بعد المفاوضات التي عقدها السادات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن. كان الإتّفاق الأوّل متعلّقا بالعلاقات المصرية ـ الإسرائيلية. وقد أفضى إلى معاهدة السلام بين البلدين في آذار ـ مارس ١٩٧٩. أمّا الإتفاق الآخر، فكان متعلّقا بالفلسطينيين والضفة الغربية ومستقبلها واقامة حكم ذاتي فيها. لم يكن في الضفة وقتذاك سوى عدد محدود من المستوطنات. ثمة فارق شاسع بين وضع الضفّة في ١٩٧٨ ووضعها الآن في ظل حكومة اسرائيلية لا تؤمن سوى بالإستيطان.
المؤسف في السنة ٢٠١٤ أنّ هناك بين الفلسطينيين من يفعل كلّ شيء من أجل القضاء على أي أمل باقامة دولة فلسطينية في يوم من الأيّام. بعد الكارثة التي تسببّت بها “حماس” في قطاع غزّة، وهي كارثة في اساسها الخدمات المجّانية للمشروع التوسّعي الإسرائيلي، جاء الآن دور ممارسة دور تخريبي في الضفّة الغربية.
هربت “حماس”، التي هي فرع من تنظيم الإخوان المسلمين، إلى المصالحة الوطنية الفلسطينية بعدما فشلت في الحرب التي شنتها على مصر من خلال دعم الإرهاب في سيناء. قبلت “حماس” تشكيل حكومة تكنوقراط من أجل نقل نشاطها إلى الضفّة.
ليس سرّا أن قتل الشبان الإسرائيليين الثلاثة في الخليل سيأتي بالويلات على الشعب الفلسطيني، خصوصا أنّ هناك حكومة اسرائيلية لا تهمّها حياة الشبّان الثلاثة بمقدار ما يهمّها القضاء نهائيا على عملية السلام التي كانت استقالة المبعوث الأميركي مارتن انديك مؤشرا إلى موتها، أقلّه في المدى المنظور.
ليس سرّا أن الشبان الثلاثة كانوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. مسؤولية ما حلّ بهم تقع أوّلا على عاتق الحكومة الإسرائيلية. هذا واقع لا بدّ من الإعتراف به. ولكن ما لا بدّ من الإعتراف به أيضا هو أن حكومة بنيامين نتانياهو ستستغلّ قتل الثلاثة من أجل متابعة سياسة الإستيطان من جهة وتحويل الضفّة الغربية إلى أرض طاردة لأهلها من جهة أخرى.
الموسف أنّ ما حصل في الخليل ألغى مفعول المصالحة الفلسطينية. كشف قتل الشبّان الثلاثة أنّ هناك من يريد نقل فوضى السلاح إلى الضفة الغربية بعدما استطاعت حكومات الماضي القريب برئاسة الدكتور سلام فيآض وضع الأسس لقيام دولة فلسطينية “قابلة للحياة” فعلا تمتلك المؤسسات المطلوب أن تكون موجودة في أيّ دولة حديثة تحترم نفسها وشعبها.
مرّة أخرى سيكون الفلسطينيون ضحايا اللعبة الإقليمية وضحايا أنفسهم. ما يشهده الشرق الأوسط حاليا من أحداث ضخمة، أكان ذلك في العراق أو في سوريا، سيغري اسرائيل كي تخوض معركة إلغاء الشعب الفلسطيني… وإخراجه من المعادلة الإقليمية.
من هذا المنطلق، لا يمكن بأيّ شكل الإستخفاف بحادث قتل الشبان الثلاثة. فبعد الحادث، وجّهت اسرائيل ضربات إلى غزّة. هناك ظاهرا رغبة في الإنتقام من “حماس” التي حوّلت القطاع “امارة اسلامية” على الطريقة الطالبانية. ولكن في واقع الأمر ما سنشهده في الأسابيع القليلة المقبلة هو موجة جديدة من الإستيطان بهدف تقطيع أوصال الضفّة الغربية بشكل نهائي والقضاء على حل الدولتين.
مفهوم لماذا تريد اسرائيل ذلك. منذ انسحبت من غزّة صيف العام ٢٠٠٥، قال عدد من كبار المسؤولين، على رأسهم دوف فايسغلاس الذي كان مديرا لمكتب رئيس الوزراء ارييل شارون، أن الهدف من الإنسحاب يتمثّل في الإمساك بصورة أفضل بالضفة الغربية. ما ليس مفهوما كيف يمكن أن يوجد فلسطيني واحد يساعد في تنفيذ الخطة الإسرائيلية بدءا بالمساعدة في تحويل غزّة إلى سجن كبير لأهلها.
ما هذا الوباء الذي اسمه تنظيم الإخوان المسلمين الذي لم يترك وسيلة إلّا ولجأ اليها من أجل الإنتهاء من المشروع الوطني الفلسطيني الذي يلقى دعما من المجتمع الدولي. يرتكز هذا المشروع على خيار الدولتين وعلى قيام دولة مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية.
إلى ما قبل فترة قصيرة، كان هناك نوع من التعاطف الأميركي مع السلطة الوطنية الفلسطينية، على الرغم من فقدان أيّ أمل في زحزحة الحكومة الإسرائيلية عن موقفها المتعنت المتمسّك بالإحتلال. وكانت استقالة انديك خبر تعبير عن اليأس الأميركي من الموقف الإسرائيلي وامكان تغييره.
بعد قتل الشبّان الثلاثة، وفي ظلّ ما يدور في المنطقة من أحداث لن يعود وجود يذكر لأي تعاطف أميركي. الخوف كلّ الخوف أن تقتنع حكومة نتانياهو أن في استطاعتها المضي في خطة إلغاء الشعب الفلسطيني. صحيح أن إلغاء شعب أمر مستحيل ولا يقدم عليه إلّا شخص مجنون، لكنّ الصحيح أيضا أن شراسة الإحتلال ستزداد وأن الفلسطينيين سيدفعون بالدم والدمار، بفضل من قرّر المتاجرة بهم وبقضيتهم مجدّدا، ثمنا باهظا. سيحصل ذلك من دون أن يكون لتضحياتهم أيّ ثمن سياسي قد يحصلون عليه يوما.