للصديق الدكتور إبراهيم السايح أسلوب رشيق، يتوخي جذب القارئ إلى ما يقتضيه النقد السياسي من جرأة واجبة، تعريةً للفساد والمفسدين، وهو إلى ذلك يُلبس مقالاته الصحفية ثوب السخرية (أكثر الأثواب إثارة في فترينة النقد) ما يلفت أنظار القراء إليه بشدة، حتى ليكاد أن يذكّرهم برائد فن الكتابة السياسية الساخرة: جورج برنا رد شو. لولا أن الأخير لم يلجأ قط إلى إسباغ الثوب الساخر على الموضوعات العلمية المتخصصة، إيماناً منه بأحقية وجدارة تلك الموضوعات بالتناول الجاد الرصين.
بيد أن الدكتور السايح، ربما للمرة الأولى في كتاباته، لم يفطن إلى هذا الحاجز الفارق بين النمطين. ومن هنا أجرى قلمه المسنون بعنف غير مبرر على جسد الكتابة الرقيق حتى أدماه، متصوراً أن “ميكروكروم” السخرية كاف لمداواة ما أحدث من جروح.
تلك كانت مشاعري بعد أن قرأت مقالة الدكتور السايح المعنونة “ريثما تتماهى العولمة في أمكنة النشوء وعذابات المقرطة” منشورة بجريدة القاهرة المصرية بتاريخ الثامن من يوليو/ تموز 2008 مفتتحاً لاغرو بمقالته تلك معركة جديدة حول مفاهيم الحداثة، التي وضح مما كتب أنه يرفضها جملة وتفصيلاً.
وبدايةً أقول لصديقي إبراهيم إن مثل تلك المعركة ليست مما يحتمل الاستهزاء بالمخالفين، أو السخرية من أساليبهم في التعبير اللغوي عما يرونه ضرورياً لتوضيح أفكارهم ورؤاهم. فالحداثة Modernity نزعةُ إنسانية متجذرة في العقل البشري بقدر ما يتجذر نقيضها: الأصولية، التي تهدف إلى الإبقاء على الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية (ومن بينها اللغة) على ما هي عليه. وعلى العكس من ذلك فإن الحداثة هي سعى مستمر للتجاوز، ورغبة عارمة في إحلال الإبداع محل الاتباع، وميل فلسفي ناحية التغير ابتعاداً عن الثبات والجمود والتحجر. وهي في التحليل الأخير شئ غير “الجديد” الذي قد يكون استمراراً كمياً للماضي، يبدل حسب أشخاصاً بأشخاص في ظل الثقافة التقليدية ذاتها.
تركيزاً على اللغة
إبراهيم السايح، الذي يستهزئ بمخالفيه مُطلقاً عليهم لقب “إخواننا المثقفين” في إيحاء يفهمه البعض بالمعنى السلبيّ، يمكن للمرء أن يجادله، على كل المستويات التي طرحها بدء من إلزامه نفس السخرية باعتباره واحداً من المثقفين.. الذين يعّرفهم جان بول سارتر بأنهم “قوم يتحدثون فيما لم يدعهم أحد للحديث فيه” وهو ما ينطبق تماما على إبراهيم سيما في هذه المقالة بالتحديد.. وانتهاء بمساءلته بما أنه – أي السايح – رافض للحداثة فإلي أي أفق يطالب التغيير السياسي أن يذهب إليه في كل مقالاته ؟! الجواب : إلي الماضي طبعا ً. فذلك هو أفق المثقف التقليدي الذي يضع نفسه في خدمة السلطة – وإن عارض نموذجها القائم طلبا ً للنموذج السلفي الأشمل – توظيفا ً لقدراته العقلية بالضد على مبدأ التحرر، وعرقلة لمسيرة الشعب نحو الديمقراطية.
بيد أنني، ولضيق المقام، سأركز مجادلتي مع الزميل السايح اليوم حول موضوع اللغة: مدخله إلي غايته المسكوت عنها في المقالة المشار إليها، وهي غاية تؤسس لسلفية جديدة، والجدة غير الحداثة كما سنرى في مقطع تال.
يتصور دكتورنا إبراهيم السايح أن اللغة العربية أقنوم ثابت، وجوهر لا يتغير، هكذا وُجد، وبما هو عليه الآن فلسوف يبقى. غير أن هذا التصور بعيد كل البعد عن الواقع التاريخي لهذه اللغة، ذلك هو الحال اللغة العربية ومع كل لغة بشرية. وكما صارت إنجليزية شكسبير غير مستعملة حديثاً، حتى بالنسبة لمن يعيدون إخراج مسرحياته، فإن عربية امرؤ القيس وعنترة وطرفة بن العبد قد أمست غريبة على أذن القارئ المعاصر. وكيف للقارئ المعاصر هذا أن يدرك المعنى “العربي” في قول شاعره العربي القديم:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
شاو مشل شلول شلشل شولُ
بالطبع كانت هذه اللغة في وقت الكتابة بها مفهومة، لكنها غدت غير ذلك في أيامنا. والمغزى أن اللغة ليست كياناً متوحداً ساكناً، فإذا سألتَ : من أين جاءت كلمة “تتماهى” إلى لغتنا العربية، قلت ُ من آلية نحت المصطلح. والمصطلح هو كلمة ُأخرجت من معناها القاموسيّ لتلبي حاجة لم تكن موجودة قبلاً. خذ مثلاً كلمة “التحرر” تجدها بمعناها المعاصر – في السياقين السياسي والاجتماعي – مصطلحا ً آخر غير تحرير رقبة، التي هي فعل من أفعال السيد مالك العبد. نعم كان السيد في عصر الإقطاع العربي يستطيع أن يحرر مواليه، لكن لم يكن في تصور تلك الثقافة أن يطالب الموالي بحريتهم دون سداد الثمن الذي ُدفع في شرائهم، كذلك لم يدر في خلد أحد من الرجال أو النساء أن يأتي يوم ُتشكل فيه جمعيات، وتنهض فيه أحزاب تطالب بتحرير المرأة، ومساواتها بالرجال في الحقوق السياسية (كالانتخاب والترشيح لمناصب الدولة العليا بما فيها الوزارات والسلك الدبلوماسي والقضاء..الخ) والاجتماعية (كحق السفر، والاختلاط في مؤسسات التعليم، وأماكن العمل، ومسابقات الرياضة و…. الخ) أضف إلي ذلك مصطلح التحرر الوطني، والتنمية المستدامة، وسائر المصطلحات العلمية. فلم الوقوف أمام كلمة تتماهى (التي استفزت إبراهيم)، وهي تعني المطابقة في الهوية Identification، وكلمة دمقرطة Democrization (التي أغضبته بشدة) وهي تعني توطين الديمقراطية في بنية المجتمع؟ فأما عن الأولى فهي اشتقاق من كلمة الهوية Identity وقد حددها الجرجاني في تعريفاته بأنها “الأمر المتعقل من حيث امتيازه عن الأغيار”. وكما نرى فهي من اصطلاحات الفلسفة جنباً إلى جنب علم الكلام “العربي”، وأما الثانية فجذرها اللغة اللاتينية،ومعناها حكم الشعب، لا الآلهة. ولما كانت الثقافة العربية التقليدية لا تعرف المسمى أصلاً. فقد جهلت الاسم، أو بالأحرى لم تجد داعياً لإيجاد بديله عربياً،فتـُـضمّنه قواميسها؛ ولذا اكتفت بنظام الشورى الذي يستبعد الشعب تماماً من مؤسسة الحكم، حيث الحاكم مطلق الإرادة، ونظام الشورى محض مجلس شكليّ، يقوم الحاكم بتعيين أفراده وعزلهم، وحتى هذا المجلس كل صلاحياته محصورة في إبداء الرأي للحاكم حين يطلبه، فإن شاء أخذ به، وإن شاء تركه.
وهم مركزية اللغة العربية
يطالبنا إبراهيم السايح ألا ننساق وراء ثقافة العولمة، ومن بين مستجداتها استخدام الاختصارات للكلمات المشهورة مثل كلمة hi = High وكلمة you التي تتحول في الكتابة بالكومبيوتر إلى u. وبالمقابل ثمة من يرون في مثل هذه الاختصارات نوعاً من اقتصاد اللغة. وفي الحداثة العليا (ما بعد الحداثة) جرى اعتبار كل المركزيات (وعلي رأسها المركزية الأوربية ذاتها،رمز الاستعلاء العرقي والثقافي) مجرد أوهام لا تصمد للنقد، فالحضارات جميعا ً لها نفس الاعتبار (ليفي ستروس)، واللغات كلها تخرج من بنية عميقة واحدة (نعوم تشومسكي)،والعقول البشرية تتبع نفس القوانين البيولوجية والفسيولوجية والنيورولوجية =العصبوية (جون سيرل) ومن ثم تسقط كل دعاوى التمييز العرقي والجنسي والثقافي، وتتوارى التراتبية إزاء صعود حق كل شعب في الممارسة Praxis التي يرتضيها لنفسه دون اتضاع أمام غيره، ودون استعلاء علي من يخالفه دينا ً أو عقيدة أو منظومات سلوكية.
في القرن الماضي كان مطلب طه حسين – الذي أجهضه المتزمتون القوميون – إحداث المطابقة بين الكلمة المكتوبة ونطقها، في سياق محاولة للانعتاق من الجمود الثقافي الذي أحدق به وكبله عن إتمام مشروعه الحداثي: إدخال منهج الشك الديكارتي(صلب معركة كتاب الشعر الجاهلي) واليوم، ونحن نخوض غمار القرن الحادي والعشرين، فإن تجديد محاولة طه حسين إنما صارت تمثل آخر فرصة للحاق بمناهج العصر وتقنياته وآفاقه، من حيث كونها الممارسة الشجاعة المؤمنة بمنهج الصواب والخطأ، نأيا ًعن اليقين الزائف الذي عاشت به تلك الأمة دهوراً.. ومن حيث كونها تدعو إلى إعادة التفكير في المسلمات الموروثة ثقافياً، ومنها مرجعية اللغة العربية التي يرى البعض ضرورة أن تتأسس عليها الثقافة الشعبية.. دون التفات إلي أنها – أي هذه المرجعية – ليست ضرورة عقلية بالأساس، فضلا عن كونها دعوة أعلن التاريخ فشلها التام، وآية ذلك أن المصريين مازالوا، منذ دخول العرب مصر، يتحدثون فيما بينهم في المنازل والأسواق باللغة المصرية العادية ذات الأصل الحامي، في حين ظلت اللغة العربية لغة ً ثانية ً، لا يعرفها إلا من يتعلمها في المدارس والجامعات، حتى بعد أن فرضها عبد الملك بن مروان عام 87هـ لغة رسمية للدواوين. ولازالت العربية تصارع لكي تجتث – دون جدوى – اللغة المصرية Mother tongueحتى بعد أن تسلل للغة المصرية الكثير من ألفاظ العربية[ بحكم المثاقفة] إنما بالتبادل تسللت إلى العربية مفردات مصرية كثيرة، مثلما فعلت باللغة العربية سائر لغات المنطقة: عبرية وفارسية وتركية وسريانية…الخ. وبالطبع فالعبرة ليست بالمفردات بل ببنية تركيب الجملة، وأجرومية اللغة التي هي منظومة موضوعية لم يفرضها أحد بإرادته المنفردة.
ما من شك في أن كاتب هذه السطور لا يسعى، ولا يفكر لحظة في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، (تلك رجعية لا خير فيها)، فيطالب بإحلال الرموز الهيروغليفية والديموطيقية محل رموز الكتابة العربية الحالية، ومع ذلك فهو يتمنى لو امتلك “إخواننا المثقفون” الشجاعة الطحسنية (نسبة إلى طه حسين) والجرأة السلاموموسية (نسبة إلى سلامة موسى) ليبدءوا رحلتهم إلى المستقبل منطلقين من خطواتها الأولى: إصلاح اللغة، آخذين في اعتبارهم ضرورة تجسير الهوة بين لغة الكتابة “العربية” ولغة الحياة اليومية للشعب المصري من ناحية، ومن أخرى بين لغتنا القومية بفرعيها العربي السامي والمصري الحامي، وبين لغة الاحتياجات العلمية الحديثة في الفلسفة والاقتصاد والتكنولوجيا والاتصالات…الخ ولا أظن أن في مثل هذه الدعوة ما يدفع بصديق عزيز وكاتب كبير إلى وسم أصحابها بألفاظ جارحة مثل الغباء والتعسف وعدم الفهم.
ولعل ذلك التجريح أن ينهض وحده شاهدا ً على أن للمقرطة عذاباتٍ وعذابات، أعنفها وأكثرها إيلاماً أن كثيراً من المثقفين والكتّاب يجعلون من أنفسهم سلاسل بشرية تحول دون تقدم الشعب نحو موضع يكون فيه سيد مصيره، مختارا ً( حرا ً) للغته، وعقيدته وتشريعاته و… حاكميه.
tahadyat_thakafya@yahoo.com
* الإسكندرية
كيف يعرقل المثقف التقليدي مسيرة الديمقراطية؟
اللغة كيان اجتماعي لا يمكن العبث به أو تغييره في اتجاه ما . ولكنه هو يتغير طبقا ً لآلياته الذاتية وتفاعلات البشر معها خاصة حين يستخدمون المجاز. ومن هنا تأتي بشريتها وانحسار القداسة عنها ، وهو ما يذكرنا بمجادلات ابن فارس مع المعتزلي ابن هاشم الجبائي . وعليه فأنا أتفق مع ماجاء بمقال الأستاذ مهدى بندق ، في رده علي دعاة الجمود والتحجر وادعاء مركزية اللغة العربية التي – كما يتصورون – كان الله
يتحدث بها مع آدم في الجنة !
كيف يعرقل المثقف التقليدي مسيرة الديمقراطية؟
هذه المواجهة مع النزعة الأصولية ضرورة لابد منها ، والمدهش أن أصحابها يتمتعون
بدرجة غير معقولة من الإستعلاء بجانب استخذاء رهيب أمام المنجزات العلمية للغرب المتفوق .. وقد عبر عن ذلك تمام التعبير الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي بقول له ” مأثور ” : الله سخر الغرب ليخترع ويكتشف وينتج لكي نأخذ نحن كل هذا دون عناء
أو تعب !
كيف يعرقل المثقف التقليدي مسيرة الديمقراطية؟حقا ً اللغة ليست مجرد مفردات ، لكنها بنية تركيبية وقواعد أرستها جدليات الإنسان والطبيعة وساعد نجاح البشر في السيطرة علي الطبيعة من خلال الإنتاج المنظم في التوصل إلي منظومات راقية للتعبير اللغوي بقصد التواصل من ناحية ، ومن ناحية أخرى لتمثل العالم فظهر الأدب و وولدت الفلسفة والعلوم ، وآخرها علوم اللغة ذاتها ، التي برهنت علي عدم وجود لغة معينة مغلقة علي ذاتها بمنأى عن التأثر . وهو ما أشار إليه الكاتب مهدى بندق بوضوح . ومن هنا يتبين أن ما يسعى لترويجه دعاة الثبات إن هي إلا محض توهم وينتهي بأصحابه إلي… قراءة المزيد ..
كيف يعرقل المثقف التقليدي مسيرة الديمقراطية؟
الأصولية ليست تهمة يا دكتور مهدى . وأنت تعلم أن الغرب بدأ طريق العودة إلي الأصول اليهودية والمسيحية . أحرام علي بلابله الدوح / حلال على الطير من كل جنس ؟ الأصولية هى القلعة التي يحتمي بها الناس من أعاصير العولمة : الاسم الحركي للرأسمالية المتوحشة – وهذا المصطلح ليس من عندي بل قرأته في إحدى مقالاتك- هل تذكر ؟فلماذا لاتدافع عن حق شعبك في اختيار الطريقة التي تناسبه في مقاومة الرأسمالية المتوحشة تلك ؟
كيف يعرقل المثقف التقليدي مسيرة الديمقراطية؟
في تعليقي السابق نسيت أن أضيف إعجابي الشديد بهذا الموقع الذي يمتعنا بكتابات ناضجة لمثقفين محترمين – منهم المستشار محمد سعيد العشماوى وجمال البنا والأخت الجميلة شكلا ومضمونا نادين البدير والمفكرة الرائعة دلال البرزي، والكاتب الشجاع بيار عقل وغيرهم ، وطبعا كاتبنا المصرى الشاعر مهدي بندق – فهم كتيبة متقدمة من كتائب التحرير والتنوير ، ولابد بالغة هدفها ، الذي هو هدفنا جميعا وإن طال المدى.
كيف يعرقل المثقف التقليدي مسيرة الديمقراطية؟
هؤلاء السلفيون المتنكرون في زي المثقف هم أشد الناس عداوة للثقافة . وهذا طبيعي
لأن المرء لا يكره سوى ما يجهل . وأنا أعاتب الكاتب الكبير الأستاذ مهدى بندق علي
إهداره وقته الثمين في مجادلات مع أمثال هؤلاء الناس، مذكرا ً سيادته بعتاب ستالين
لتروتسكي قائلا : كنت عندنا تجادل بليخانوف وآكسلرود ومارتينوف .. فانظر الآن إلي محاوريك من أنصاف المثقفين الأمريكان !