مقدمة
أولا : كأي عملية بناء يجب العمل أولا على تهيئة الأرض لتكون صلبة ومستوية ومستقرة لتحمل البناء دون أن تتصدع أو تتشقق . أي بمعنى قانوني وضع الأسس التي ستقوم عليها الدولة.
الدستور والمبادئ التي سيتبعها ويلتزم بها، ومجموعة القوانين الأساسية، هي ضمير المجتمع والمعبر عن جميع مكوناته. هذه الأرضية يجب أن تكون مستوية حتى تتوزع عملية البناء عليها بالتساوي دون أن يتحمل جزء من المجتمع عبئا أكبر من الآخرين، مما يستلزم معالجة الكتل الناتئة وردم الحفر والفواصل الموجودة – الأفكار المتطرفة يمينا وشمالا- وتوسيع مساحة البناء ليشمل كل مكونات المجتمع حتى لا تترك أي مساحة أو مكون خارج عملية البناء.
ثانيا : يجب أن نضع مخططات البناء وشكله بحيث يكون معبرا عن كل المجتمع بتاريخه وحاضره ومستقبله، ولا يقتصر على حقبة زمنية محددة ولا على مكون واحد أو أكثر من مكونات المجتمع، بل يجب أن يتمثل فيه كل مكونات المجتمع وتاريخه. أن يكون أفقه للمستقبل ويستقرئ التطور الحضاري ولا يقيد نفسه بتاريخ أو حاضر يتحرك باستمرار. التعبير عن كل مكونات المجتمع وإعطاء الجميع مساحة تعبر عن تراثه وتاريخه ومشاركته بالبناء يجب أن يكون بشكل هارموني تناسقي وليس تنافري وفجّ بما يعطي غنى وجمالية للبناء ولا يؤثر على متانته.
إن أي محاولة لسيادة لون واحد أو شكل واحد أو ثقافة واحدة أو تاريخ واحد على البناء وتغييب باقي الاتجاهات، تحت ذرائع أغلبية أو غيرها، ربما يعطي انطباعا من الخارج بالوحدة ولكنه سيؤدي إلى تقسيم داخلي عشوائي وتنازعي ولن يؤدي إلى أن يعيش كل المجتمع في البناء الواحد بل سيلجأ كل مكون لإنشاء كانتونه الداخلي ومجتمعه المنعزل ويؤجج الأفكار المتطرفة، مما يهدد بالمحصلة متانة البناء ككل وتزعزع أركانه وتشقق أرضيته لتكون هشة أمام أي زلزال.
من هذه الرؤية نبدأ ببناء بالدستور، فهو القاعدة الأساسية والحامل للمجتمع والدولة والكيان. فهو القاعدة الأسمى بالدولة وواجب التطبيق قبل كل قانون، لذلك يجب أن تكون حاملا مرتبطا بشكل عضوي مع الأعمدة الأربع الأساسية في البناء وهي قوانين الأحزاب والجمعيات والانتخابات والإعلام والسلطة القضائية:
1- قانون الأحزاب والجمعيات هو الذي ينظم طريقة صنع وعمل التكتلات والتجمعات التي تعبر عن مصالح مكونات المجتمع وطريقة مشاركتها في صنع القرار والتأثير فيه وتحقيق مصالح الفئات والطبقات. وهنا يجب أن نراعي أن لا تكون هدفها وعملها يدفع للتقسيم والتنازع، بل تنافسي ضمن أصول الديمقراطية والسلمية بما يحفظ ويدعم وحدة الكيان.
2- قانون الانتخابات وهو الآلية التي سيعبّر المجتمع من خلالها عن مصالح مكوناته وأهم أهدفها أن تكون قادرة على إيصال كل صوت بشكل حقيقي ومؤثر دون أن يتيح تغوّل أغلبية على صوت أقلية. كما يجب أن يدفع ويشجع على أن يكون التنافس سياسياً وليس بخلفيات أخرى دينية او طائفية أو قومية. وأعتقد أنه بالتجربة أثبتت النظرية النسبية بالانتخابات، والتي تعتمد على البرامج السياسية، فاعليتها في توطيد لحمة المجتمعات وتخفيف من حدة التباينات. مع أنني، ولطبيعة تاريخ سوريا مع الانتخابات حسب القائمة الفردية، أفضّل أن تكون فترة انتقالية بانتخابات مشتركة نصف عدد النواب بالقائمة الفردية والنصف الآخر بالنظرية النسبية لدورة واحدة أو دورتين انتخابيتين، ومن ثم تكون بالنظرية النسبية بعد أن تكون قد نضجت الأحزاب والممارسة الديمقراطية.
3- قانون الإعلام وهو آلية التعبير للمجتمع كأفراد وأحزاب وجمعيات ومنظمات عن أنفسهم وهي السلطة الرابعة التي تصوّب الأخطاء وتشكل صوت الرأي العام. ويجب أن تكون حرة غير مقيدة لا بالتأسيس ولا بطريقة التعبير إلا بما يهدد وحدة الكيان، ولا تكون الرقابة مسبقة بل لاحقة وعبر القضاء.
4- قانون السلطة القضائية وهو الأهم لأن القضاء هو السلطة الأساسية برأيي لأنه الدرع الحامي للمجتمع والكيان والحريات والحقوق من السلطة ومن بعض المجتمع نفسه. ويجب أن تتأسس على ثلاثة مبادئ هي الاستقلالية والنزاهة والحياد، هذه الأقانيم الثلاثة هي التي تشكل مفهوم العدالة. وإصلاح القضاء والمؤسسة القضائية لإعادة الثقة بها هي المهمة الأهم والأولى، برأيي، في رسم مستقبل سوريا. وهذا الإصلاح يتمثل بعدة خطوات أولها إعادة صياغة قانون السلطة القضائية بما يضمن استقلاله والفصل بين قضاة الحكم وقضاة النيابة، وفصل عمل وزير العدل والسلطة التنفيذية عن عمل مجلس القضاء الأعلى، وإعادة هيكلة القضاء بما يضمن توسعا جغرافيا وتخصصيا يكفل بإحقاق العدالة بوقت سريع، وإعادة النظر بطريق تعيين القضاة وتأهيلهم. وإعادة تقييم القضاة الموجودين واستبعاد الفاسدين وغير الحياديين، وتدعيم وضع القضاة الاجتماعي والاقتصادي لحمايتهم من الضغوط والفساد، وتشكيل لجان قضائية تخصصية استثناءاً لمرحلة مؤقتة للنظر بتظلمات المرحلة السابقة إن كان بما جرى بفترة الثورة أو بالقضايا القديمة التي شابها فساد كبير أو ظلم فاضح نتيجة التدخلات الأمنية. تفعيل دور لجان التفتيش القضائي والاستعانة بقضاة أجانب وعرب لتفادي الضغوط والمحسوبيات بالمحاسبة وخاصة بالمرحلة الأولى.
إن هذه النظرة السريعة على القوانين الأربعة الأساسية لا تغني بل تؤكد وجوب البحث بها تفصيليا كل على حدة والتي ستكون موضع بحث خاص ومناقشة بكل تأكيد .
الدستور
الدستور هو واجهة الدولة والمحدد الأساسي لكيانها ويشكل الصورة الأولى لظهورها أمام نفسها والعالم. وهو الذي يحدد طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة والسلطة، ويحكم كل القوانين الأخرى بالدولة، ويحدد آلية عمل إداراتها ومؤسساتها والعلاقة بينها، وهو القانون الأسمى والواجب التطبيق قبل أي قانون آخر.
ويتم تقسيم الدستور إلى عدد من الأبواب والفصول التي تبحث كل هذه التفاصيل حسب ما يأتي:
1- توصيف الدولة كجغرافيا سياسية وكيان وطبيعة وكيان سياسي وانتماء. وهنا نواجه عدة احتمالات أو تحديّات، منها ما هو ليس محلّ خلاف بأن سوريا جمهورية ووحدة الأراضي السورية كما هي الخارطة الجغرافية الآن.
ولكن هناك نقاطاًًً قد يثار فيها اختلاف كاسم الدولة والتي تعبر عن انتمائها بالنسبة للبعض كإضافة اسم “العربية” للاسم، أو وجود فقرة تنص على هذا الانتماء، وهو ما يثير حفيظة السوريين غير العرب. وأنا أعتقد أن مسألة الانتماء هي مسألة سياسية تحددها الأغلبية السياسية التي في السلطة بوقت من الأوقات وليست نصاً دستورياً أو بالاسم. فكثير من الدول العربية لا يوجد باسمها ما يدل على “العربية”، ومع ذلك هي عضو بالجامعة العربية وتنتمي إلى المجموعة العربية سياسيا. وهناك من اسمه ونصوصه الدستورية تنص على ذلك ولكن عمليا هو غير منتمي سياسيا لهذه المجموعة وإن كان يمارس دورا فيها. وحيث إن مسألة الانتماء هي مسألة سياسية، كما قلنا، تحددها الأغلبية، وحيث أن سوريا هي في وسط عربي محيط، وهي بكل الأحوال مضطرة إن لم أقل هي منتمية فعليا وستتعامل مع الجوار بشكل ايجابي لمصلحة شعبها، فمن الطبيعي أن يكون هناك نص على هذا الانتماء للمحيط والتاريخ العربي مع عدم تجاهل الانتماء الإقليمي والدولي أو على حسابهما بما يحقق مصالح الشعب.
كما هناك مسألة الدين للدولة كتشريع ولرئيس الجمهورية. وأعتقد أن الشرعة الاسلامية هي أكيد كدين لأغلبية سكان سوريا هي مصدر أساسي للتشريع وليس المصدر الأساسي بما يؤدي إلى أن تكون التشريعات منسجمة مع الشريعة من جهة ولا تفرض قوانين غير مقبولة من قبل فئة من المجتمع مهما كبرت أو صغرت. وتترك مجالا للمشرع ليعبّر عن كل مكونات المجتمع. أما بالنسبة لدين رئيس الجمهورية، فأعتقد أنه من غير المنطقي ذكرُه ليس لأنه يمكن أن يسمح بتولي رئيس من غير الأغلبية المسلمة أو يحرم أحدا من غير الأغلبية ذلك، فإن هذا لن يكون إذا لم تنتخبه هذه الأغلبية أساسا. بل لأن ذكر هذا الشرط سيحرم الأغلبية نفسها الحق بانتخاب من تراه مناسبا بغض النظر عن دينه. لذك فإن وجود هذا الشرط هو إجحاف وانتقاص من حقوق الأغلبية المسلمة قبل أن يكون انتقاصا من حقوق الأقلية.
وكذلك يمكن أن تثار مسألة النظام الرئاسي هل هو جمهوري برلماني أو رئاسي أو برلماني رئاسي.
أعتقد أن الجميع متفق على استبعاد النظام الرئاسي بما يعنيه من نشوء ديكتاتورية لم يعد أحد يريدها. وأنا أعتقد أن التجارب العالمية أثبت نجاعة النظام المشترك بشكل أكبر. فالنظام البرلماني الذي تتحكم فيه الأغلبية البرلمانية بكل المفاصل، من انتخاب رئيس الجمهورية المجرد من الصلاحيات، إلى تعيين رئيس الحكومة والحكومة والرقابة عليها والتشريع، عدا أنه يحيلنا إلى ديكتاتورية من نوع آخر، فإنه وبالتجربة نظام غير مستقر سياسيا تتلاعب فيه الكتل السياسية بأمور البلد وأي تغيير في تحالفات الأحزاب لأي سبب يمكن أن يؤدي إلى تغيير الحكومة كلها. كما أن الرقابة على عمل الحكومة ستضعف كثيرا بسبب أن الأغلبية البرلمانية هي من عينها وبالتالي تكثر عمليات الفساد المغطاة برلمانيا وتزداد التشريعات لمصالح حزبية وليس وطنية. أما النظام البرلماني الرئاسي المشترك، حيث يُنتَخَب الرئيس من الشعب، كما البرلمان، مع صلاحيات محددة بالدستور بحيث لا تطغى أو تتعدى أو تتجاوز صلاحيات البرلمان الذي هو المرجع الأول والممثل لاختيار الشعب، فإنه يخلق تنافسية إيجابية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لمصلحة المجتمع ويحّد من الفساد ويفعّل الحياة السياسية والقرار الشعبي على عمل الحكومة. حيث أن تناوب انتخاب مجلس النواب ورئيس الجمهورية مباشرةً يجعل المواطنين مشاركين بالرقابة وتصحيح المسارات خلال فترات متقاربة، وهو امتحان سريع للبرامج السياسية يعرب فيه الناخبون عن رضاهم من عدمه عن أداء الأحزاب والممثلين الذين سبق أن اختاروهم.
2- تحديد الشكل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للدولة. وأعتقد هنا أنه ليس هناك تحديات أمام الدستور بل خيارات ليس صعباً تحديدها والاتفاق عليها. فبالنسبة للموضوع الاقتصادي، أعتقد أن النظرية الاشتراكية والاقتصاد المغلق أثبتت عدم جدواها، وأن الاقتصاد المنفتح مع الحفاظ على مبادئ العدالة الاجتماعية ودور الدولة بحماية الفئة الأفقر هو الحلّ الأنجع للدول. كما أن الثقافة المنفتحة للتعامل والأخذ من كل الثقافات هي حقيقة لم يعد من الممكن تجاهلها.
3- تحديد الحقوق والواجبات للدولة. وهنا يمكن أن نقول بأن موضوع الحقوق الأساسية للإنسان هي موضوع لا يقبل المناقشة والجدل، وأن هذه الحقوق واحترامها هو مقياس حضارة أي دولة، وكلما توسعت الدول بتطبيقها كلما كانت أكثر حضارية وتقدما وأعطت مواطنها ومجتمعها قوة ومناعة. أما بالنسبة لدور الدولة فأعتقد أن الغالبية مقتنعة بأن دور الدولة لا يتوجب أن يكون حياديا تجاه المجتمع بل متدخلا بحدود لا تؤثر على الحريات، وعليها تأمين وحماية الحقوق الأساسية للإنسان من حق العمل والتعليم والحياة الكريمة والبيئة النظيفة والرأي والتعبير والمشاركة السياسية وغيرها من الحقوق، والحفاظ على أمنه ووحدته.
4- تحديد طريق انتخاب ومدة ولاية مجلس النواب وسلطاته، وكيفية ممارسة صلاحياته بالتشريع وآلية الرقابة على عمل الحكومة، ودور الأحزاب السياسية بالمجلس، وكيفية اتخاذ القرارات بأنواعها وإقرار القوانين ونفاذها وطرق الطعن بها. وعلاقته مع رئاسة الجمهورية والحكومة.
5- تحديد طريقة انتخاب رئيس الجمهورية ومدة ولايته وسلطاته وطريقة ممارسته سلطاته وحدودها وعلاقته بالحكومة ومجلس النواب.
6- الحكومة وطرق تشكيلها وممارسة عملها وسلطاتها ومحاسبتها والهيئات الرقابية المالية والعقدية على أعمالها.
7- السلطة القضائية ومجلس القضاء الأعلى وتشكيله ودورها وسلطاتها خاصة بما يخص رئيس الجمهورية والنواب.
8- المحكمة الدستورية العليا تشكيلها وصلاحياتها وكيفية القيام بدورها.
9- موضوع إدارة الأقاليم وتقسيم المحافظات وسلطات الإدارة المحلية ودورها وصلاحياتها. وهنا أعتقد بأن كلما ازدادت صلاحيات الإدارات المحلية وأُعطِيَت هامشاً واسعاً للتحرك لخدمة مناطقها تحت إطار الدولة الواحدة، كلما تجاوزنا مطبات مطلبية ليس للأقليات القومية أو الدينية فقط وإنما للمناطق الجغرافية التي عانت طويلا من التهميش والإهمال. وإن زيادة وتوسع الصلاحيات المحلية أثبت الواقع والتجربة أنها تزيد التزام المواطن بالوطن ولا تؤدي لابتعاده.
10- طرق إقرار الدستور وتعديله والنسبة المطلوبة لتعديل المواد. وأعتقد أن معظم الدساتير الحديثة وضعت جزءا من مواد الدستور وخاصة المتعلقة بالحقوق الأساسية للإنسان وجغرافية الكيان وماهيته غير قابلة للتعديل بأي أغلبية كان. (لطفا مراجعة الدستور الألماني، ووثيقة الآباء المؤسسين لأمريكا، وموقع شعارات الثورة الفرنسية بالدستور الفرنسي).
وقد سبق أن وضعنا في المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية وثيقة المبادئ المؤسسة للدستور تم التوافق عليها من معظم الأحزاب ووقّع عليها الآلاف أرجو اعتبارها جزءا من هذه الورقة.
كما وضعنا مشروعاً للدستور عام 2005 منشوراً في عدة مواقع.
المحامي أنور البني
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية
*
إقرأ أيضاً:
المحامي أنور البني: لماذا الدستور؟
“شرعة 08”: 300 مثقف صيني يطالبون بحكم ديمقراطي ودستوري وبإنهاء هيمنة الحزب الشيوعي
“الهزيمة التي لحقت بمعسكر الوطنيين في الحرب الأهلية دفعت الأمة إلى هوّة الإستبداد”!
كيف سنبني سوريا الجديدة؟ أؤيد الأستاذ أنور البني بأن الدولة ليست بحاجة لهوية، إذ أن الهوية مرتبطة بالإنسان و ليس بالشارع أو البناء أو المدينة أو حتى الدولة. فسوريا هي وصف جغرافي سياسي تضم الكثير من الناس الذين لهم هوياتهم الخاصة. أقترح أيضاً إضافة لائحة حقوق أساسية في الدستور تضمن المساواة بين الجميع و تحمي الأفراد من تعديات السلطة على حرياتهم و حقوقهم و ملكيتهم. يمكن أن يتطلب تغيير لائحة الحقوق الأساسية أغلبية أعلى من تلك المطلوبة لتغيير المواد الأخرى من الدستور مما سيجعل من الصعب على أي حكومة تتمتع بأغلبة بسيطة أو تحالف أحزاب أن يلغي أياً من حقوق… قراءة المزيد ..