لا يبدو أن ردة الفعل الروسية والانخراط البوتيني، في مقابل تنصل أوباما وسعي كيري الشخصي، سيسفران عن التوصل في العام 2016 إلى توافق أو تسوية أو اتفاقية ‘لافروف – كيري’.
يعيش النزاع السوري منذ ثلاث سنوات على وقع تحرك الثنائي جون كيري – سيرجي لافروف، مع تفاقم المأساة والمعارك متعددة القطب والمناورات من كل نوع. وبالرغم من بروز نوع جديد من الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، لم يتأثر التفاعل والعمل المشترك بين لافروف وكيري في مسارات الأزمة السورية، فهل تكون الأشهر الأخيرة من ولاية باراك أوباما أي من وجود كيري على رأس الدبلوماسية الأميركية، الفرصة الذهبية لموسكو من أجل إخراج حل يتلاءم مع استراتيجية فلاديمير بوتين، أم هل ستكون فعليا مرحلة الشهور الصعبة خاصة على ضوء اعتراف جون كيري، نفسه، بـ“أن الحرب في سوريا باتت خارجة عن السيطرة؟”.
مما لا شك فيه أن اختلال التوازن الدولي في “اللعبة” السورية وشراسة المواجهة الإقليمية والداخلية، لا ينبئان بحصول اختراقات إيجابية في منطقة تحولت إلى ما يشبه البركان، وتشكل فيها الحالة السورية الحلقة المركزية لعدة حروب في حرب، يتصورها البعض فرصة لإعادة رسم النظام الدولي أو إعادة تركيب الإقليم، لكن بعد قرن من الزمن على اتفاقية سايكس – بيكو الإنكليزية – الفرنسية (بعد استثناء سيرجي سازانوف القيصري الروسي)، لا يبدو أن ردة الفعل الروسية والانخراط البوتيني، في مقابل تنصل أوباما وسعي كيري الشخصي، سيسفران عن التوصل في العام 2016 إلى توافق أو تسوية أو اتفاقية “لافروف – كيري”، وعلى الأرجح سيتطلب حل النزاع السوري انتظار الإدارة الأميركية الجديدة وتصحيح الخلل في التوازنات الإقليمية والدولية.
ستة أشهر تفصل ما بين 14 نوفمبر 2015، موعد آخر اجتماع في فيينا أطلق مسار جنيف، و17 مايو 2016 موعد اجتماع مجموعة دعم سوريا لبحث مستقبل الحل السياسي. كانت هذه المرحلة محتدمة عسكريا وسياسيا، وحفلت بإصدار القرار الدولي 2254 (الذي أصبح مرجعية لمسار الحل السياسي السوري إلى جانب وثيقة جنيف 1)، وعدم قدرة التدخل الروسي على إحداث تغيير جذري لصالح النظام السوري، وفشل جولات التفاوض في جنيف.
بالرغم من عدم صمود هدنة وقف الأعمال العدائية (27 فبراير 2016)، ومعارك حلب ومحيطها التي أرادها المحور الإيراني – الأسدي تقريرية وحاسمة وفشل حتى الآن في ذلك، أتى الإعلان عن موعد فيينا 3 في الأسبوع القادم، لينعش الأمل بإحياء الجولة المقبلة من مسار جنيف 3 قبل بداية يونيو المقبل وفق تصور مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا (أو خلال الشهر القادم) وذلك على خلفية إصرار كيري ولافروف على رعاية المسار والجهد الاستثنائي المشترك عبر “مركز مراقبة الهدنة في جنيف” (غرفة مشتركة أميركية – روسية تسجل حالة نادرة في العلاقات الثنائية)، ومع أن هذا التعاون يدلل على تسليم أميركي بالدور الروسي الأساسي، لكنه يشكل عنصر ضعف بحد ذاته، لأن موسكو تلعب دور الخصم والحكم في آن معا.
من غرائب وعجائب الأمور في زمن الاضطراب الاستراتيجي أن تختلف واشنطن وموسكو في كل مكان تقريبا (النزاع الأوكراني والعقوبات ضد روسيا، ومنظومة الدرع الصاروخية في أوروبا والتي تم تدشينها في رومانيا، والتهديدات الروسية لدول الجوار كما جرى أخيرا عندما هدد لافروف السويد التي تود التقارب مع الناتو، وتمدد حلف شمال الأطلسي نحو حدود روسيا، والتوتر فوق البلطيق وفي البحر الأسود، والرفض الروسي لإدانة تجارب صواريخ أميركا الشمالية، وسباق التسلح الذي يهدد معاهدة 1987 حول الأسلحة الإستراتيجية النووية) إلا في سوريا.
وبرز “الغزل” مع صدور البيان الروسي – الأميركي، يوم التاسع من مايو الجاري، قبل قليل من اجتماع باريس لنواة ما كان يسمى مجموعة “أصدقاء الشعب السوري” (وزراء خارجية وممثلو 10 دول، هي فرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية والأردن وتركيا والإمارات وقطر والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) في مسعى واضح لقطع الطريق على موقف أوروبي مفترض إلى جانب الهيئة العليا للمفاوضات الممثلة للمعارضة السورية ومطالبها قبل العودة إلى جنيف.
ومن دون شك لا ينظر كيري ولافروف بعين الرضى إلى تفاهمات أوروبية – خليجية تكسر الثنائية الأميركية – الروسية بشأن الملف السوري. وهكذا أتى حضور كيري الاجتماع لينتزع بقاء الأطراف “الحليفة” تحت السقف الأميركي ولكي تكتفي بسرد مطالب حول الهدنة وفك الحصار والدعوة إلى استئناف الحوار.
وهذا يعني أن مسعى باريس لمجابهة التفرد الأميركي – الروسي ومخاطر “التنازل الأميركي خلال الشهور القادمة” لم يفلح تماما، لكنه شكل على الأقل رافعة لتحسين الموقف الأميركي في “اللعبة” مع موسكو، والتحضير للحد الأدنى المقبول في اجتماع فيينا وقبل استئناف جولة جديدة من الحوار السوري في جنيف. بيد أن المعنى الأعمق للبيان الأميركي – الروسي يكمن في استمرار رهان موسكو على إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما “اللينة”، وتفادي استمرار المجابهة في سوريا مع ما تنطوي عليه من استنزاف (حاولت موسكو الحد منها عبر إعادة الانتشار في بدايات آذار الماضي).
يتباهى بوتين بتقنيات أسلحته ويقول إن “القوات الجوية والبحرية الروسية برهنت على قدراتها”، وساعدت القوات السورية (الأسدية) على تحرير 500 بلدة، لكنه يستدرك ويعود ليراهن في العمق على أن “يثمر التعاون الروسي – الأميركي عن تغييرات جوهرية، وخلق الظروف المناسبة لتحقيق التسوية السياسية”. وهذا يعني أن إستراتيجية موسكو المتماسكة بحاجة أيضا للغطاء الأميركي. وهنا مكمن العلة في انعدام التوازن في الرؤى والإستراتيجيات. إذ أنه في مقابل رؤية روسية واضحة للدفاع عن النظام السوري وإعادة إنتاجه في سياق توازن إقليمي يكرس موسكو لاعبا دوليا أساسيا في الشرق الأوسط، نلاحظ عدم وجود إستراتيجية أميركية بسبب تنصل أوباما العملي، وممارسته التسويف والضغوط على القوى المناهضة لبشار الأسد داخليا وإقليميا.
ولهذا مهما كان تطور الأوضاع الميدانية ونتائج اجتماع فيينا القادم، أصبحت الدول الحليفة للمعارضة السورية على محك الاختبار حتى لا تدفع ثمن التسويف والتنصل الأميركيين، والمراوغة الروسية والهجوم الإيراني.
ضمن هذه الأجواء الممهدة للشهور الصعبة يتميز دور جون كيري (السياسي المخضرم والمرشح السابق للرئاسيات الأميركية) عن موقف أوباما. إنه يحاول الإثبات أن له هيبة دولية وهو يحاول الحفاظ على سمعة واشنطن وصورتها، لكن الوقائع لا تمنحه كل الصدقية لأن الإيهام في ترتيب الحلول يترافق مع المزيد من الاستهتار في الدم السوري. ربما يراهن كيري ولافروف على استنزاف إيران والقوى الإقليمية الأخرى على الساحة السورية لفرض سيناريو الحل وفق تصور موسكو مع مراعاة مصالح وهواجس واشنطن، لكن هذه اللعبة “الماكيافيلية” والرقص على الركام السوري، يشيان أيضا بأن النزاع السوري له دوما وظيفته الجيو سياسية، وأن آفاق حله غير واضحة على المدى المنظور.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس