مع كل تحول عاصف في المجتمعات الإنسانية بدون إستثناء، تبرز ظواهر متناقضة وتتصارع عوامل متباينة. فمن ناحية تنكشف بشكل حاد كل المظاهر السلبية وعيوب النظام السابق بكل قيمه وأخلاقياته البالية والتي شاخت وعاف عليها الزمن , اضافة الى انكشاف ماورثه حتى معارضي هذا النظام من تلك العيوب و الامراض. كما تبدأ عناصر الجديد بالتبلور وسط مقاومة عنيفة من القديم من أجل عرقلة وقوف الجديد على قدميه وشق طريقه. وبين هذا وذاك يطل أيضاً المظهر الإنتهازي واللاعبين على الحبال والذين يضعون قدمهم في النهار عند عتبة الجديد، ولكنهم في الليل يعقدون الصفقات مع من يعرقل إستقرار الجديد ويحيكون المؤمرات ضده ولعرقلة التخلص من آثار الماضي بكل قيمه ،أو دق الأسافين بوجه تطور المجتمعات البشرية.
و حالنا اليوم في العراق وبعد خلاص العراقييين من النظام السابق وآثامه لا يختلف عن حال شعوب أخرى مرت بنفس ظروف التحولات العاصفة وإن تغيرت الأساليب والممارسات. وهنا تقع على عاتق الأطراف السياسية الساعية الى إخراج البلاد من آثار النظام السابق أن تحسن الخروج من دوامة الفوضى والعبث وتختصر الوقت بإتباع أفضل السبل لتوفير الظروف لإحياء البلد وتأمين الأمن والسلام للشعب، وصولاً الى إقامة نظام مستقر ضمن إطار من رقابة الشعب وإحترام رأيه. لقد ضيعت النخب السياسية العراقية خلال السنوات الأربع الماضية الفرصة تلو الأخرى لتحقيق هذا الهدف.
وكانت النتائج بطابعها العام سلبية من حيث تنامي قوى الدمار والارهاب والعبث والإيغال في قتل المواطنين الأبرياء والسعي لتحويل العراق الى ساحة لحرب مذهبية طائفية قذرة تحرق الأخضر واليابس.
ولعل أحد أسباب إشتداد ظاهرة التدمير والقتل وعدم تحقيق الإستقرار يعود الى أن واجهة الصراع إتخذت منحى طائفي مذهبي، مما خلق أجواء كي تلهث غالبية القوى السياسية، وبمباركة من مراكز مذهبية طائفية، الى التمسك بالواجهة المذهبية الطائفية في العمل السياسي وما تبعها من مسعى لمحاصصة طائفية مذهبية لحل مشكلة الحكم وإدارة البلاد. هذا الخيار برهن خلال السنوات الماضية على أنه لم يكن عقيماً فحسب، بل مدمراً وسد الأبواب أمام كل فرص سيادة الأمن والإستقرار وبناء هذا البلد المدمر ونجاح العملية الدستورية في العراق.
إن أبرز أضرار نهج المحاصصة البائس الذي أعتمد في بناء الدولة وأجهزتها هو تحول التشكيلة الوزارية مثلاً الى ميدان نزاعات حادة بدل ان تكون كما اريد لها حكومة وحدة وطنية. فالوزراء بغالبيتهم حولوا وزاراتهم الى “ضيعات طائفية” لا علاقة لها بالعراق والوطن بل بالعشيرة والطائفة. ويفاجأ العراقي عند ذهابه الى أية وزارة عراقية ليجد أنها مرتع طائفي وغير عراقي الى حد أن بعض الوزراء يدعو صراحة وببيانات رسمية أفراد طائفته الى الإسراع بتقديم طلباتهم للعمل في وزارته بعيداً عن المهنية والكفاءة، وما يعني ذلك من هبوط في مستوى الأداء الحكومي وفساد تخطى فساد الأجهزة الحكومية في العهد المظلم السابق. هذه المحاصصة اللعينة أصبحت مظهراً كاريكاتورياً، حيث تسمع تصريحاً لرئيس الجمهورية سرعان ما يرّد عليه على لسان نائبيه، أو إعلان من رئيس الوزراء سرعان ما يدان من قبل أحد وزرائه. في ظل هذه الفوضى لا يبقى للحكومة وأجهزتها أية حرمة ولا مكانة وثقة بها وهو ما يوفر أرضية خصبة للأرهاب كي يتنامي ويطحن العراقيين. وياريت أن تبقى الأمور الى هذا الحد من “التناحر” الديمقراطي بين أطراف الحكومة. فالخيار المحاصصاتي الطائفي قادنا خلال السنوات الأربع الماضية الى تبوأ رموز من السراق وفلول الأجهزة الصدامية أو من له علاقة بالإرهاب والإرهابيين مراكز مرموقة في أجهزة الدولة وهو ما تكشف لاحقاً وهرب من هرب وأختفى من إختفى وفي معيته أكداس من المال العام.
إن الأنكى من كل هذا وذاك هو أن يحول هذا “الغزل الطائفي” ومحاصصته بعض القتلة الى وزراء .. نعم وزراء. ولعل خير مثال على ذلك هو ما أنكشف أخيراً من ضَلوع وزير ثقافتنا الممثل لمؤتمر أهل العراق – من قائمة التوافق الطائفية والمطارد حالياً من قبل الأجهزة القضائية في أفعال إرهابية وأعمال قتل طالت عائلة النائب مثال الآلوسي في عام 2005. إن لملوم المحاصصة الطائفية العقيم لا يستوزر أحد العراقيين البارزين في ميدان الثقافة والمختصين وما أكثرهم في العراق، بل إستوزر أمام جامع تدور حوله الكثير من الشكوك في سيرته الذاتية. وعلى طريقة العبث الطائفي الجاري حالياً، لا ينتظر بعض الساسة العراقيون من حَمَلة “الشهادات” الطائفية القاء كلمة انتقاد ضدهم حتى يسارعوا الى تعليق مشاركتهم في الحكومة كما أعلنت جبهة التوافق و نفت الاتهامات الموجهة إلى وزير الثقافة، واصفة إياها بـ«بالباطلة والملفقة» وتم إملاؤها على معتقلين بعد تعذيبهم بطرق وحشية. وقال بيان للجبهة أصدرته في وقت متأخر من مساء اول من امس، عقب اجتماع عقدته لمناقشة تداعيات القضية، «إن هذه الاتهامات لم تكن وليدة الساعة، فقد نما إلينا، قبل عدة أيام خبر إصدار مذكرة التوقيف ضد الهاشمي المستندة الى تلك الاعترافات الباطلة”. ولنا مثال غريب آخر هو وزير الصحة السابق علي الشمري من التيار الصدري والذي لاذ بالفرار الى الولايات المتحدة. إن هذا الوزير فصل من مستشفى النجف التعليمي بسب بيعه لأسئلة الإمتحانات الى الطلبة العرب في كلية الطب، مما دفعه الى الهرب الى الأردن ثم الإنتقال الى قطر، مقر قناة الجزيرة، حيث عمل حتى عام 2006 في مؤسسة حمد الطبية. وفي ظل وزارته كان مسؤول الطب العدلي يبيع الجثث الى أسر ضحايا القتل الارهابي الطائفي بأسعر خيالية الى أن فاحت الرائحة لهذه التجارة المريعة. وحول هذا الوزير وزارته الى وكر لفريق الإرهاب الطائفي شأن زميله أسعد الهاشمي.
وتتعدد “مفاخر” بعض الوزراء في حكومة المحاصصة لتشمل وزراء ما أن يتم إكتشاف ممارسات مشينة في وزارته، كما حدث في المشاهدات المرعبة لأحد بيوت الأطفال المعاقين في وزارة العمل والشؤون الإجتماعية، حتى ينبري الوزير لا بالتحقيق وكشف العيوب ومسائلة المسؤولين بل لحرف القضية ضد “مؤامرة” للأمريكان للإطاحة بحكومة المالكي. والأمثلة على المشاكل العويصة للمحاصصة تطول ولا نريد الحديث عن رئيس مجلس النواب السابق ومشاكله الى جانب البعض الآخر ممن تقلد منصبه لا عن كفاءته بل عن إنتمائه الطائفي.
إن العراق أمام محنة حقيقية لا يمكنه أن يتجاوزها بدون التخلي عن هذا الإسلوب الفاشل في إدارة الدولة. فعلى السيد المالكي وهو يبحث الآن في تشكيل إدارة جديدة أن يتخذ قراراً مسؤولاً وشجاعاً في إستيزار وزراء من النخبة المتعلمة ولها الخبرة والمعرفة الرفيعة في فروع إدارة إعمار البلاد, وليس من حملة “الشهادات الطائفية”. فوزارة الثقافة تحتاج الى وزير مثقف رفيع المستوى لكي يرمم ما دمر في العهد السابق وبعده في أروقة الثقافة المختلفة. وينطبق الأمر على الوزارات المختلفة من وزارة الداخلية الى وزارة المالية والشؤون الإجتماعية وغيرها التي يجب أن تبنى من جديد على أسس عراقية وليست طائفية أو مناطقية عن طريق إختيار الأفضل والأعلم والأكثر نزاهة من العراقيين ونبذ مبدأ المحاصصة السئ الصيت والمدمر. فالعراق يمر بمرحلة حرجة لم يشهدها من قبل حيث توظف أطراف عديدة إقليمية ودولية مراكز تدريب وتمويل لتدمير العراق وقتل شعبه. وعلى حد تعبير السيد عادل عبد المهدي فهناك 5000 مركز يدرب القتلة والإرهابيين خارج العراق لتحويل العراق الى أنقاض. ولا تستطيع المحاصصة الراهنة البائسة أن تواجه هذه الموجة الهمجية بوزراء فاشلين ممن أشير لهم في هذا المقال. وعلى السيد المالكي أن يأخذ العبرة من تجربتنا الفاشلة السابقة ويتمتع بالحزم والحرص على مصير العراق الذي يقاد الى مصير مجهول ويقف بوجه الأسلوب المحاصصاتي الفاشل. وعلى رئيس الوزراء أن يأخذ العبرة والمثل من أمثلة راهنة ومن رؤساء جدد تعيش بلدانهم في ظروف مستقرة ويبحثون عن الطريق الأفضل لإدارة شؤون البلاد.
فالسيد “غوردن براون” على سبيل المثال وهو الرئيس الجديد لمجلس وزراء بريطانيا، والذي خلف توني بلير عمد في تشكيلته الوزارية الى تعيين الكثير من ذوي الخبرة في جميع المجالات ممن هم خارج حزب العمل البريطاني الحاكم، وبعضهم ممن عارض سياسة حزب العمال، بهدف توحيد الشعب والاستفادة من الخبرة الأفضل بعيداً عن التحزب السياسي أو الطائفة أو العشيرة. ليتعض رئيس وزرائنا من هذه التجارب وتجارب شعوب أخرى وقعت في المحن، ولكنها إستفادت من خيرة خبرات أبنائها لإعادة ترميم البلاد وليس إستيزار من يعبثون ويدمرون البلاد من أمثال أسعد الهاشمي أو علي الشمري. إزالة المحاصصة الطائفية تعني الشروع بتصفية الفساد الإداري الذي فاق ما كان موجوداً في ظل النظام السابق بحيث أن المواطن العراقي لا يستطيع ، على سبيل المثال، أن يحصل على جواز سفر .. مجرد جواز سفر الا بعد أن يدفع رشوة قد تزيد على نصف مليون دينار عراقي وقد ينتهبي به الأمر ألا يحصل عليه اطلاقا؟؟. ليس أمام السيد نوري المالكي سوى طريق واحد وهو تشكيل وزارة طوارئ من ذو الخبرات الرفيعة ومن ذوي النزاهة ومن ذوي الولاء للعراق…وليس لطوائف ومناطق وقوميات وعشائر.
adelmhaba@yahoo.co.uk