أنا من أشد المؤمنين بأن ما يدور حاليا بين تايلاند وكمبوديا من إشتباكات حدودية للأسبوع الثالث على التوالي، وما نجم عنها من قتل وترويع ودماء بريئة وتهجير للآلاف من البشر إلى مخيمات الإيواء الحدودية، يتحمل مسئوليته الجانب الكمبودي بالدرجة الأولى.
صحيح أن الحرب الراهنة جاءت على خلفية نزاع قديم ما بين الجارتين حول مناطق حدودية بما تتضمنها من آثار ومعابد هندوسية شيدت في القرن الثاني عشر مثل معابد “تا موان” و “تا كرابي” و “بريه فيرهير”، وغيرها من تلك التي يدعي كل طرف أحقية السيادة عليها، لكن الصحيح أيضا هو أن الأمم التي خاضت غمار حروب أهلية وغير أهلية على مدى سنوات طويلة من الصعب عليها أن تستكين إلى السلام، وتقبل بلغة الحوار والتفاوض كبديل للغة القوة والدم، لأن اللغة الأخيرة تكون قد ترسخت في النفوس والأفئدة وصارت ثقافة لمجتمعاتها، وديدنا ومحورا للسياسات الخارجية لحكوماتها.
فكمبوديا – وكما هو معروف للجميع – كانت دولة ملكية مسالمة في ظل حكم الأمير “نوردوم سيهانوك” الذي حكمت أسرته البلاد منذ القرن الثالث عشر، والذي فضـّـل بعد خروج الفرنسيين من بلاده في عام 1953 أن ينتهج سياسة عدم الإنحياز والحياد الإيجابي في ذروة الحرب الباردة في عقد الستينات من القرن المنصرم، لكنها تحولت فجأة إلى عنصر توتير وتأزيم في منطقتها الجغرافية، بل تحولت إلى جبهة مواجهة في الحرب الإمريكية – الفيتنامية، وذلك بــُعيد نجاح الإنقلاب العسكري المدعوم إمريكيا بقيادة الجنرال الأهوج “لون نول” في مارس 1970. ومنذ تلك اللحظة راحت الدولة الكمبودية تحارب الآخرين، بل تحارب شعبها أيضا من خلال حرب أهلية ضروس، وخصوصا حينما نجح زعيم أهوج آخر في إزاحة “لون نول”، والحلول مكانه، وتأسيس نظام أرعن على النمط الماوي. والمعني هنا هو الجزار “بول بوت” الذي يقال، أنه وبالإشتراك مع قادته، قتلوا أكثر من مليوني كمبودي بريء خلال حقبة حكمهم الأسود ما بين عامي 1975 و 1979. وحتى بعد خروج “بول بوت” من السلطة مدحورا بفعل غزو القوات الفيتنامية المدعومة من بكين للبلاد، ظل هذا الأخير مع رفاقه يديرون عمليات الكر والفر، وعمليات الإغتيال والتعذيب في ما سمي بـ “حقول الموت” على جانبي حدود كمبوديا مع تايلاند ولاوس. بعدها دخلت كمبوديا في مواجهات دامية مع الفيتناميين والصينيين تحت قيادة رئيس حكومتها الحالي “هون سين”، الأمر الذي ترسخت معها ثقافة العنف والدم أكثر فأكثر في المجتمع الكمبودي.
وهكذا نرى أن كمبوديا ما كادت تخرج من حرب إلا وتدخل أخرى تحت ذرائع مختلفة، وذلك في ظاهرة يعرّفها علماء النفس بـ “رغبة دفينة لدى من تشربوا ثقافة العنف والتخريب والقتل لمواصلة عنفهم دون كلل تحت شتى المبررات”.
في كل هذه الحقبة التاريخية، وما قبلها، ظلت تايلاند بعيدة عن سياسات الإنغماس في العنف والنزاعات، ونأت بنفسها وبشعبها عن الإنخراط في الحروب والصراعات العبثية، حتى أنها في ذروة الحرب العالمية الثانية، وما تمخض عنها من تقدم القوات اليابانية في أراضي دول الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا، غزوا وإحتلالا ومهانة، مارست سياسة ضبط النفس تجنبا لإراقة دماء شعبها، وحفاظا على نهجها السلمي، الأمر الذي نجت معه هذه البلاد من الإحتلال الأجنبي، فكانت إحدى الدول القليلة في منطقتي جنوب شرق آسيا والهند الصينية التي لم تطأها أحذية الغزاة الأجانب. وفي السياق نفسه جنبت بانكوك لاحقا نفسها من الدخول مباشرة في الحرب الفيتنامية – الإمريكية، مكتفية بتقديم بعض التسهيلات اللوجستية للقوات الإمريكية أثناء تلك الحرب المعقدة التي عرفت بـ “الحرب بالوكالة” في إشارة إلى كونها حربا ما بين الأمريكان والسوفييت على أراضي الغير.
كل هذه السياسات الخارجية التايلاندية الحكيمة، معطوفة على سياسات داخلية واقعية محورها دفع البلاد نحو البناء والتنمية والإزدهار وخلق الكوادر البشرية المتعلمة، هي التي جعلت تايلاند مثالا ناصعا للسلام والإستقرار والتنمية المستدامة.
إن الخوف والقلق من توسع الحرب الحدودية الراهنة ما بين الجارتين التايلاندية والكمبودية إلى حرب شاملة تعصف بكل ما حققته السواعد التايلاندية على مر عقود من الزمن، وما حققه الكمبوديون في السنوات الأخيرة من سلام داخلي هش، وإقتصاد متذبذب، لكنه مؤهل ليكون واعدا، هما ما دفعا منظومة “آسيان” للمسارعة إلى التدخل من أجل وضع حد للمشاكل المتراكمة بين عضوين من أعضائها العشرة، أو على الأقل تفعيل إتفاقية سلام رعتها الأمم المتحدة في 22 فبراير الماضي، ولم تجد تنفيذا على أرض الواقع لغياب الثقة المتبادلة ما بين طرفيها، ناهيك عن إمتعاض بانكوك مما إعتبرته خطوة إستفزازية وعدائية من جانب جارتها، ألا وهي تعيين الأخيرة لرئيس الحكومة التايلاندية الأسبق “تاكسين شيناواترا” المطلوب في بلاده بتهم الإحتيال والتزوير وسؤ إستغلال النفوذ، كمستشار إقتصادي للحكومة الكمبودية، بدلا من تسليمه للسلطات التايلاندية.
وقد تجلت جهود “آسيان” في إقتراح يقضي بإرسال قوات إندونيسية للفصل ما بين القوات التايلاندية والكمبودية، ومراقبة الوضع في المنطقة المتنازع عليها. وقد رفضت بانكوك هذا الإقتراح من منطلق أن المشكلة داخلية وثنائية وبالتالي يجب حلها بالحوار الثنائي، ناهيك عن وجود مادة في ميثاق “آسيان” تنص على عدم تدخل دول المنظومة في الشئون الداخلية لبعضها البعض.
غير أنه بالرغم من تفهم الملاحظات التايلاندية على جهود “آسيان”، فإن مساعي الأخيرة مهمة ويجب أن تستمر وتــُدْعم من أطراف أخرى، طالما أن هدفها الأسمى هو نزع فتيل الصدام والمحافظة على الأرواح البريئة والبنى التحتية من أهوال الحروب، خصوصا وأننا نتحدث هنا عن بلدين يجمعهما ما لا يجمع أي قطرين آخرين، سواء لجهة التاريخ والمعتقد الديني أو لجهة العادات والتقاليد واللغة والأبجدية والفنون والتراث. فحينما تكون الأوطان على شفا الفوضى والإحتراق المدمرين للأخضر واليابس، فإن الأولوية القصوى يجب أن تكون لترسيخ السلام والأمن كهدف لا يعلوهما أي هدف آخر.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh