إذا صدقنا أحمد فؤاد نجم فإن البشائر تهل على مصر في يناير من كل عام. يمكن أن نعود بالذاكرة إلى الخامس والعشرين من يناير قبل ست سنوات، وإلى تواريخ سبقت. وهذا غير ضروري، الآن. كل ما في الأمر أن في حكم المحكمة الإدارية العليا، في القاهرة، بمصرية جزيرتي تيران وصنافير، ما يُضيف جديداً إلى بشائر يناير.
وإذا شئنا الكلام بطريقة أكثر وضوحاً فلنقل إن الحكم المذكور أخرج النظام القائم في مصر من ورطة كان يمكن أن تودي به. فلا شيء في الهوية القومية للمصريين يفوق الأرض قداسة، ولا شيء يجرحهم أكثر من المس بكرامة البلد. وفي قضية تيران وصنافير اجتمعت الأرض والكرامة. ذات يوم كتب أكاديمي سعودي عن “أيديولوجيا اسمها مصر” في معرض السخرية مما رأى فيه أوهاماً مصرية، واستيهامات فارغة، بشأن المكان والمكانة، على الرغم من فقر المكان، وفقدان المكانة.
في الكلام عن مصر بوصفها “أيديولوجيا”، أي مجرد وهم، انسجام كامل وشامل مع زمن وكابوس ألدوس هوكسلي “الجديد، الشجاع”، الذي يتسيّد فيه مصطفى موند على رأس حكومة العالم. ففي عالم كهذا تنتفي العلاقة بين الجغرافيا والسياسة، وبين السياسة والتاريخ، وبين الثروة والقيم، وبين الهوية والذاكرة. كأن الخليقة لم تبدأ إلا يوم أمس.
وإذا شئنا الكلام بلغة اليوم، ومفرداته، ففي كلام كهذا انسجام كامل وشامل مع الليبرالية المعولمة الجديدة، التي تستمد فيها، ومنها، الشعوب، والدول، مكانها ومكانتها من حجم رصيدها في البنك، مع شهادة ضمان دولية كاملة وشاملة بشأن الحق، في، واحترام، “التعددية الثقافية”، فالكل سواء جاء من القرون الوسطى، أو من القرن العشرين وما بعده، على شاشة الكومبيوتر في البنك، سواسية وسواء.
المهم أن مشكلة الجزيرتين نشأت في وقت تعاني فيه مصر من ضائقة مالية تقصم الظهر، وقد نالت حكومتها مكافأة مالية مُعتبرة مقابل التنازل عن الحق في السيادة. وجاء هذا كله في سياق احتدام الصراع على دور القوّة الإقليمية، والنفوذ في الشرق الأوسط، وتجلى في مناطق تماس ساخنة في اليمن والعراق، وسورية، وفي الموقف من صراع سُني ـ شيعي وهمي ومتوّهم على حاضر ومستقبل العالم العربي. وكان ينبغي على مصر، ويُنتظر منها، أن ترضى بدور التابع.
والواقع أن مصر في أزمنة سبقت قد قبلت بدور كهذا، ولكن على نطاق ضيّق، كما حدث في زمن مصيدة الدب الروسي في أفغانستان. ولكن دور التابع في حروب الحسم الجديدة كان مكشوفاً أكثر مما كان عليه الحال في أفغانستان، وفي أفريقيا خلال عضويتها في “نادي السفاري”، وبهذا المعنى كان أكبر من قدرة مَنْ يحكم مصر على الانصياع والقبول، “فالأيديولوجيا” التي اسمها مصر، حتى وإن ضعفت وهانت تظل عصيّة، أو تستعيد الروح، كلما تعلّق الأمر بالمكان والمكانة.
في أوائل أربعينات القرن الماضي كان الملك فاروق يحظى بشعبية واسعة في مصر، ولكن رضوخه للمحتلين الإنكليز، الذين حاصروا قصر عابدين بالدبابات وأرغموه على إقالة حكومة وتعيين غيرها، كان أحد الدوافع الرئيسة لسقوطه، غير مأسوف عليه من شعبه، بعد عشر سنوات، في 1952.
وعلى الرغم من حقيقة أن عبد الناصر تكبّد هزائم فادحة، وتغوّلت في عهده الدولة الأمنية، إلا أن زمن عبد الناصر، والتأميم، وتقليم أظافر الأسد البريطاني في السويس، وحرب الاستنزاف (جزيرة تيران من نقاطها الساخنة)، تستنفر نوستالجيا المصريين وتمنح عبد الناصر مكانة خاصة في قلوبهم، ولن تكف عن ذلك في وقت قريب. وحتى السادات الذي أحدث انقلاباً شاملاً في كل ما كانت عليه مصر، فإن حرب أكتوبر، التي اقترنت باسمه، تستنفر نوستالجيا المصريين، وتمنحه مكانة ما في قلوب أعداد كبيرة من المصريين.
في رصيد النظام الحالي في مصر أنه أنقذ البلاد من كارثة استيلاء الإخوان على مقاليد الحكم فيها، وكان عليه أن يفعل أكثر في مجال الحرّيات العامة، وإعادة ترميم حياة البلاد والعباد بالمعنى السياسي والاقتصادي على أسس ديمقراطية. وهذا لم يحدث. وبهذا المعنى كان في التنازل عن الحق في السيادة على تيران وصنافير من البارود ما يكفي لزيادة الاحتقان والإطاحة به.
وتبقى، في هذا السياق، مسألة أخيرة: لا غنى لأحد في كل علاقة محتملة بمصر، أو محاولة تحليلها، عن ضرورة إدراك حقيقة خصوصيتها التاريخية والثقافية، وخصوصية الهوية القومية الجامعة للمصريين، وعلاقة أهل الوادي بالأرض والكرامة، وما يُستمد منهما، ويُبنى عليهما، من دلالات تتعلّق بالمكان والمكانة. وكلتاهما حقائق ثابتة في الزمان والمكان.
في تاريخ مصر الطويل كبوات كثيرة، وحالات إغماء استمرت مئات السنين. وفيه، أيضاً، محاولات متكررة للصعود، واستعادة المكان والمكانة. في تاريخ مصر القريب محمد علي ومشروعه التحديثي الكبير، الذي أجهضته الكولونيالية الغربية. وفيه، أيضاً، عبد الناصر ومشروعه التحديثي الكبير، الذي أجهضته القوى نفسها.
يصعب في الوقت الحاضر، معرفة كيف ومتى ستخرج مصر من محنتها الحالية. ومع ذلك، من الحماقة غض النظر عن أمرين: لن يخيب، أبداً، رهان ومُراهن على مصر أولاً، ولا أمل لمشروع عربي يحقق النهضة والتقدّم بلا مصر ثانياً. أما ما قد ينجم عن حكم المحكمة بشأن ملكية تيران وصنافير من تداعيات على العلاقات المصرية ـ السعودية، فهذه مجرّد تفاصيل صغيرة في دراما تاريخية وسياسية وثقافية أكبر. فلنتذكّر أن مصر ليست أيديولوجيا “كل ما تهّل البشاير من يناير كل عام”.