إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
سينتخب اللّبنانيّون
في الأسبوع القادم برلمانهم. لا أدري ما ستفرزه هذه الانتخابات على الساحة اللبنانية، وهل يمكن أصلاً أن تفرز شيئًا خاصًّا ما دامت تجري على أساس المحاصصات الطائفيّة؟
الأقربون أولى بالمعروف، قالت العرب. ولمّا كنت عربيًّا فقد ارتأيت أن أبدأ بالأقربين لديّ هنا قبل التّطرّق للجيران. لقد ولدتُ وترعرعتُ في قرية عربيّة “مُخْتلَطَة”. هكذا كان دومًا تعبير الـ”مختلطة” يختلط لدينا بتعبير الـ”عربيّة” ويظلّ لصيقًا به، وذلك مقارنة بقرى من نوعيّة أخرى. والمقصود بـ”القرى المختلطة” على الألسن العربيّة لدينا هو أنّها متعدّدة الطّوائف الدينيّة بخلاف مصطلح “المدن المختلطة” الّذي يُنسب عادة إلى مدن يعيش فيها العرب واليهود. أمّا القرى العربية المختلطة فهو بخلاف قرى عربية أخرى ظلّت أحاديّة اللّون الطّائفي، كأن تقول مثلاً قرية إسلاميّة وقرية مسيحيّة وقرية درزيّة. أي أنّ تعبير قرية مختلطة يشي في نهاية المطاف بما يحمله التّعبير من حالة التّباين، مع أنّ الجميع عرب من الناحية الثقافيّة والاجتماعيّة. أمّا زيادة التعداد السكاني في القرى وتحويلها من “قرية” إلى “مدينة” من ناحية التّعريف الرّسمي، فلم يغيّر فيها شيئًا لا من ناحية اجتماعيّة ولا من ناحية ثقافية، وظلّت حال هذه البلدان على ما هي عليه من نظام اجتماعي وثقافي عُرْباني.
الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها
هي أنّ سمة العروبة الثّقافيّة لم تُفلح في يوم من الأيّام في خلق تداخل اجتماعي بأيّ حال من الأحوال بين مكوّنات هذه الفسيفساوات الطائفيّة، فالحارات التي تتشكّل منها القرية ظلّت منفصلة جغرافيًّا على أساس طائفي، إذ لم يحدث تزاوج عابر للطوائف كما لم يحدث تماوت مشترك، أي أنّ المقابر ظلّت طائفيّة. ولو حاولنا أن نضع هذا التّوصيف بكلام تعميمي لهذه الحال الـ”عربيّة”، فبوسعنا أن نقول: لا الحياة العربية مشتركة ولا الموت العربي مشترك، رغم أنّ الجميع “عرب” على ما يدّعون صباح مساء. وبكلمات أخرى، إنّ الخلفيّة الدينيّة للبشر هي التي حسمت هذا الفصل الإثني الطائفي. ولقد انقسمت بالطّبع أيضًا المكوّنات الطائفيّة على انفراد بداخلها إلى عصبيّات طائفيّة وحمائليّة قبليّة كلّ داخل أبناء عقيدته الدينية، وبقي كلّ يغنّي على ليلاه. ورغم كلّ ما يُقال عن الصّدام بين الأقليّة العربيّة في إسرائيل من جهة وبين السّلطة المركزيّة والأيديولوجيّة الصهيونية من جهة أخرى، إلاّ أنّ هذا الصّدام لم يُفلح في تغيير تركيبة هذه المكوّنات لدى هذه الأقليّة العربية ولم يخلق منها مجتمعًا واحدًا متكافلاً بحقّ.
يمكن النّظر إلى هذا التّوصيف المقتضب لحال قرية عربيّة واحدة في هذا المشرق بوصفه ميكروكوسموس للحال العربيّة العامّة. وكلّ ما قلناه عن قرية عربيّة “مختلطة”، لدينا هنا، يمكن أن ينسحب على الكيانات الأكبر في الحلقات الّتي تأخذ في الاتّساع، حتّى نسحبه على هذا الشّرق المأزوم بأسره.
الشّعارات الرنّانة الطنّانة
لا تكفي وحدها لخلق مجتمع واحد متكافل يحمل ذات الهموم ويحلم بمصير مشترك منفتح على نفسه أوّلاً قبل أن ينفتح على الآخرين. لقد نوّهت مرّة في الماضي إلى حال من الفصام النّفسي اللّبناني الّذي ينعكس في الاستعمالات اللّغويّة، فقد برزت على الساحة اللّبنانيّة استعمالات لغويّة تعبّر خير تعبير عن ذلك الفصام السّياسي والطائفي المتجذّر فيه. الخراب اللّبناني ينعكس في الخراب اللّغوي، فالقارئ العربي لوسائل الإعلام اللّبنانية لا يستطيع أن يُحدّد هويّة “الرئيس”، فهو يقرأ في هذا الإعلام: الرئيس سليمان، والرئيس السنيورة، والرئيس بري، وحبل الرؤساء على الجرّار، كما يقال. والسؤال الّذي يطرح نفسه في هذا السياق، كم رئيسًا يستطيع بلد صغير كلبنان أن يتحمّل؟ فحتّى أميركا العظمى لها رئيس واحد، أوباما، لا غير.
إنّ هذا الخراب اللّغوي العربي يكشف عن ذهنيّات قبليّة طائفيّة تنخر عظام هذا البلد، مثلما نخرت وتنخر هذه الذهنيّات في أصلاب هذا الشّرق. بل أكثر من ذلك، بوسعنا أن نقول إنّه ومع وضوح الفشل القومي “العروبي” المتمثّل بالنّاصريّة الرّومانسية السّاذجة، مرورًا بأحزاب البعث الفاشيّة الّتي لم تجلب سوى الخراب والدّمار على مجتمعاتها، وبروز ما يسمّى خطأً “الإسلام السّياسي”، وكأنّ هنالك إسلامًا ليس سياسيًّا، وهو تصوّر خاطئ أصلاً، فقد دفعت هذه الحال بالمجتمعات العربيّة “المختلطة” إلى وضع من التّقوقع هو أكثر عواصةً وخطورةً ممّا سبق.
إنّ ما يسمّى “الإسلام السياسي”، على اختلاف تيّاراته، هو أكبر خطر محدق في الكيانات والمجتمعات الـ”مختلطة” التي تتشكّل من فسيفساوات إثنيّة وطائفيّة، لأنّ هذه التيّارات تؤدّي إلى تذرّر المجتمعات وتفكّك الكيانات السياسيّة -الدّولة – المعاصرة. وبدل تقديم الدّولة المؤسّسة على النّظام والقانون الّتي يتساوى فيها الأفراد، دون النّظر إلى خلفيّتهم الدينيّة والإثنيّة، يتمّ تقديم الطائفة والمذهب والقبيلة بوصف هذه الأطر السّابقة للمدنيّة الحديثة هي الحامي للفرد في مجتمعات متفكّكة.
من هذا المنطلق،
عندما تصادر بعض الأحزاب اللّهَ وتنقشه شعارًا لها، فإنّها تنفي هذا “الله” عن الآخرين، بدءًا من أبناء مذهبها وانتهاء بسائر الطوائف وتجرّدهم منه، كما لو أنّ اللّه حكرًا على هذا الحزب دون غيره. وكذا هي الحال عندما تنتحل أحزاب أخرى نعوتًا مسيحيّة، شيعيّة، درزيّة، سنيّة، قبطيّة وما إلى ذلك من تسميات مذهبيّة دينيّة فإنّها تعكس حال التّذرّر هذه. فها هي الأحزاب اللّبنانيّة، على اختلافها، إنّما هي في الواقع أحزاب طائفيّة مذهبيّة وقبليّة تعبّر عن حال بدائيّة لوضع الدّولة في هذا الشّرق.
ومن هذا المنطلق أيضًا، فإنّ الطّريق المثلى للكيانات والمجتمعات “المختلطة” هي طريق فصل الدّين عن الدّولة دستوريًّا. بل وأبعد من ذلك، إذ يجب بنظري وضع حظر دستوري على أحزاب تتسمّى بأسماء لها علاقة بمعتقد ديني أيًّا كان، دون فرق بين أبناء الديانات. الدّين يجب أن يبقى خارج اللّعبة السياسيّة، ويجب أن يبقى حالة فرديّة بين الشخص وبين ذاته. أمّا إن لم يتوافق النّاس على هذه المبادئ في بناء الدولة والمؤسّسات، فلن تكون هناك دولة ولن تكون هناك مؤسّسات، وستظلّ الشّعارات البليدة هي المسيطرة.
إنّ الذهنيّة الطائفيّة القبليّة المتجذّرة
هي أشبه ما تكون بالاستعمار، إذ أنّ السّلطة عندما تكون بقوّة المخابرات في أيدي طائفة صغيرة دون غيرها فهي تتحوّل إلى استعمار مستبدّ ظالم، كما هي حال البعث في العراق من قبل، وفي سورية اليوم. وعندما تتحوّل إلى سلطة “الطائفة الكبرى” من ناحية عدديّة، دينيًّا مذهبيًّا، وإثنيًّا، فإنّ سائر الطّوائف ستشعر بكونها مستعمرة أيضًا. وفي كلا الحالين سيشعر المواطن العربي أنّ استعمار ذوي القربى أشدّ مضاضة من الاستعمار الغربي الّذي حارب من أجل التّحرّر منه. وسيظلّ لسان حاله يقول: سقى اللّه على أيّام الاستعمار الأجنبي! فقد كان أرحم على الأقلّ.
لقد قال جبران مرّة: “لكم لبنانكم ولي لبناني”. أمّا أنا، فلا يسعني سوى القول: لكم عُرْبانُكم ولي عُرْباني. وخلاصة الكلام، إنّ العرب في هذا الأوان، ومنهم لبنان، هم أحوج ما يكونون إلى أتاتورك عربيّ.
أليس كذلك؟
والعقل ولي التّوفيق.
- القدس