أزمة الهوية المصرية إحتاجت الى لعبة كرة القدم لكي تنْتفض من جديد على فراغها من المعاني. ليس معلوماً ان كان القرار الرسمي المصري بخوض الحرب الكروية هو من أجل الهوية الوطنية أم من أجل إعادة إحياء شرعية سوف يفتقدها سيناريو التوريث المقبل. وقد يكون النظام خاض الاثنين معاً وبوعي شديد للعلاقة التي أصبحت سهلة بين إحياء كل من الهوية الوطنية وشرعية النظام السياسي، على طريقة صدام حسين: «العراق أنا وأنا العراق». وما بينهما كرة قدم، بحيث تكون أجندة النظام كالتالي: الخلط بين حب مصر وكراهية الجزائر أمة ونظاماً. إشعال حب هذا الوطن بإشعال أحقاد سخيفة. فتسْتتب الشرعية وينفذ السيناريو.
والاجهزة والاشخاص والدوائر والمؤسسات الواقفون خلف هذه المعركة الكروية من أجل الهوية والشرعية… هؤلاء لا يعدّون ولا يحصون: الاعلام الرسمي وشبه الرسمي و«المستقل» باستثناءات نادرة جداً، حشود الاعلاميين والمذيعين والفنانين، النجوم وغير النجوم، والوزراء والنواب… حتى رأس النظام. كلهم صوت واحد منذ الانتصار الكروي للجزائر على مصر، وبوتيرة متصاعدة وصاخبة، يعلوها الصراخ. والحمية الرسمية كلها منْصبة على المصريين الذين تعرضوا للإعتداءات في الخرطوم (حيث جرت المباراة النهائية) بعد انتهاء المباراة وفوز الجزائر.
تعتقد للحظة، بعدما يعلن مسؤولو الامن السوداني بأن ما تعرّض له بعض المشجّعين المصريين لا يتعدى ما تعرض له بعض الحزائريين قبيل مباراة القاهرة الاولى وبعيدها (وقد سجل فيها المنختب المصري هدفين ضد الجزائري)… تعتقد بأن الحملة قد تقفل عند هذا الحد. ولكن لا. الحملة مسعورة ونَفَسها طويل، على خلاف معارك اخرى أقل سخافة. وكل يوم يضيف اليها مشهداً اعلامياً أو فنياً من اجل كرامة مصر والدفاع عن مواطنيها. خصوصاً مواطنيها. (والطريف انها، في هذا الشق من الحملة انها تنتظر حماسة من السودانيين الذين تعرض اللاجئون منهم للقتل والتشريد والفصل وشردوا وفصلوا عن عائلاتهم منذ ثلاثة سنوات في قلب القاهرة على يد الشرطة المصرية، ومن حولها كان المواطنون المصريون يصفقون ويشجعون… هذه المأساة المصَفَّق لها، تناستها الابواق التي حولت الشعب السوداني «الشقيق» الى جمهور يؤازرها بداهة… تحت شعار «وحدة مصر والسودان التاريخية».
أحياناً تنْتابك الحيرة: هذه السلطة الرسمية نفسها التي لا تفعل شيئاً من أجل حماية حياة وصحة مواطنيها. السلطة غافلة عن الأذى الذي يلحقه تسلّطها وفسادها بأمن مواطنيها: من انتهاكات الشرطة اليومية لكرامتهم واستباحة أجساد، الى عمارات تتساقط وحرائق تندلع في السفن والقطارات وما يتعرّض له المصريون المهاجرون، خصوصا الى دول الخليج، من عذابات… الى ما يفيض تفصيله. كل هذا الاهمال، كل هذا الفساد، كل هذا الاستهتار… كأنه غير حاصل ومنسي. كأن السطات المصرية ساهرة ليلاً نهاراً على ان لا يُمسّ المواطن المصري بأي اذى، وأن الأخذ بثأر هذا المواطن بهذه الكراهية البهلوانية المفتعلة، هي التي سوف تبني الهوية الوطنية المتداعية. ومحور هذه الشعوذة الثقافية سؤال سبق الاميركيون ان طرحوه قبل اوباما «لماذ يكرهوننا؟»… مع الفرق ان هذا السؤال الاميركي أحضر باراك اوباما الى البيت الابيض، فيما السؤال المصري غَرَضه تثبيت شرعية جمال مبارك في حكم مصر بعد رحيل والده. «لماذا يكرهوننا؟»، وبكل هذا الصخب، سؤال يحض الهوية على البناء العنفي، فيكون الرد بالعنف الرمزي الاقوى، وهو وحده في المتنَاول الآن. مقاطعة العدو الجزائري وأبْلسة العدو الجزائري والتشنيع به، واضافته الى قائمة أعداء الارض والمصير.
ربْ قائل بأن مصر ليست وحدها في تثبيت شرعية نظامها عبر هوية غوغائية. فهذه من سمات النُظُم التسلّطية، بتجنيد السخافات من أجل تأمين الشرعية. وقد برع بها النازيون وقلدهم الفاشيون الايطاليون. ولكن الفرق ان الرد الجزائري على الحملة المصرية ليس بحجمها، ولا الجزائر تمتلك الآلة الاعلامية المصرية العريقة والضخمة؛ بل لم تكن في يوم من الأيام، قلب العالم العربي ورائدته في مجالات الفنون والثقافة واللغة، ولا هي تراجعت كما تتراجع مصر الآن. وهوية الجزائر أكثر تعقيداً:
داخل الجزائر هناك حالة «تضامن وطني» تحجب إخفاقات نظام. حالة تضامن مثابرة على الإحالة الى اللحظة التحررية الاولى من الاستعمار الفرنسي: «بصدق، لم أعش يوماً حالة تضامن كهذه. انه يوم يشبه يوم الاستقلال»، يقول رئيس اكبر الاندية الجزائرية بعد فوز الفريق الجزائري. والأهم من جزائر الداخل نفسها، الجزائريون الفرنسيون الذين نزلوا بكثافة الى شوارع العاصمة الفرنسية ومدنها الرئيسية فور الاعلان النتائج: صارخين فرحتهم ومطلقين شعارات «تحيا الجزائر» واخرى بذيئة ضد مصر. في مرسيليا أحرقوا العلم الفرنسي واعتدوا على المارة غير المبالين… فأعادوا بذلك الى اذهان الفرنسيين مباراة 2000 بين فرنسا والجزائر عندما اطلق الجمهور الجزائري الفرنسي الصفير عند سماعه النشيد الوطني الفرنسي. وقتها قيل ان هؤلاء هم شبان الضواحي المحرومة من خطط الاندماج الوطني «اطفال لا يفكرون، ولكنهم غير أشرار». اما اليوم فلا هوية أشدّ توليدا للعنف مثل تلك التي صدرت عن الجمهور الفرنسي ذي الاصل الجزائري. زعيم اليمين الفرنسي المتطرف جان ماري لوبان المزهو بالفورة الجزائرية، لما ستجلب اليه من اصوات المستائين، عرض على الصحافة، محرّضا، قميصا (تي شرت) وُزِّع في شوارع مرسيليا وعليه الرسم التالي: علم فرنسا بألوان العلم الجزائري (أخضر وأبيض) مشطوب بلوغو عليه شعار «مرسيليا، عاصمة البلدْ» (bled) اي العمق الجزائري.
نحن الآن في عصر الهويات، والعنف. عصر يتعقد فيه تشكل الهويات، وكرة القدم المليونية، الحشود أكثر الانشطة استدعاء للهويات الخام، الهويات الاولية المتلاعب بها والعابرة للعقل عبور الكرام. الحدود فتحت بين البشر. والاعلام، المرئي خصوصاً، هو الاداة الاكثر استخداماً لتوليد هكذا هوية. والتلفزيون لم يحسن حتى الآن مع شعوبنا الضائعة في تديّنها الشكلي، غير المساهمة في أخطر تعبيرات الهوية. بالأمس لُعِب على الدين، فلم نحظَ بغير جماهير مستعدة ان تفدي دمها وروحها من اجل ذاك الذي يدير معركة كرة بقدمه الرشيقة، المحظوظة.
بالأمس ايضاً، وفي مصر أيضاً، خيضت معركة انتخاب فاروق حسني الى منصب عالمي في اليونيسكو على انها معركة هوية مصر وموقع مصر على الخريطة الدولية. واليوم معركة كرة القدم من اجل الهدف نفسه. ماذا عن غداً؟ عندما لا يبقى تديّن ولا فاروق حسني ولا كرة قدم؟ كيف ستتوسّل السلطة المواطن من أجل شحذ الإخلاص والوفاء، بما لا علاقة له لا بعيشه ولا بكرامته اليومييَن؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل
كرة القدم والهوية الوطنية المصرية: فصل آخر من فصول التخبّط في بحر الغوغائية والإستبداد سيدتي، مقالك كامل ومتوازن تقولين:ماذا عن غداً؟ عندما لا يبقى تديّن ولا فاروق حسني ولا كرة قدم؟ أقول لك: آن أوان أبلسة محمد البرادعي والتشكيك به حتى على المستوى العلمي، لأنه سمح لنفسه أن يفكر كمصري مع شيء من الكرامة هذه الأنظمة ستستمر بقيادة الأمة من حضيض إلى أحضض، وصار تعريف الحضيض يتغير يومياً على أيديهم، حيث يحفرون أعمق ويتفننون وتبقى الشعوب العربية والإسلامية تتصرف على مبدأ العجز على قدر الإدعاء فهم أكثر الناس تغريداً بالشعارات الطنانة والكرامة والعزة وأكثرهم عالمياً بقبول الذل والتعتير والشرشحة والهوان… قراءة المزيد ..
كرة القدم والهوية الوطنية المصرية: فصل آخر من فصول التخبّط في بحر الغوغائية والإستبداد
تراجعت سورية تسعة مراكز في قائمة مؤشرات الفساد لتقترب من ذيل القائمة مع احتلالها المركز الـ 147 على مستوى العالم. ومصر ايضا مع احتلالها المركز الـ 115
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%A4%D8%B4%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF
كرة القدم والهوية الوطنية المصرية: فصل آخر من فصول التخبّط في بحر الغوغائية والإستبداد
تراجعت سورية تسعة مراكز في قائمة مؤشرات الفساد لتقترب من ذيل القائمة مع احتلالها المركز الـ 147 على مستوى العالم. ومصر ايضا مع احتلالها المركز الـ 115
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%A4%D8%B4%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF