في معرض دفاع جبران باسيل رئيس “التيّار الوطني الحر” عن نفسه وسمعته في مواجهة العقوبات الأميركية التي فرضت عليه بموجب قانون ماغنتسكي المخصص للسياسيين الفاسدين، وضع صهر رئيس الجمهورية نفسه في موقع المدافع عن مسيحيي لبنان ككلّ.
من سوء حظه ان السفيرة الأميركية دوروثي شاي تكلّمت ووضعته في مكانه الحقيقي واختزلت تصرّفاته بانّها تنمّ عن سلوك انتهازي من النوع المبتذل، سلوك يعكس في الوقت ذاته جهلا بالسياسة الأميركية وباميركا نفسها. مثل هذا الجهل منعه من ادراك معنى ان يكون وزير خارجية لبنان في مجلس جامعة الدول العربيّة بمثابة وزير الخارجية الإيراني. لم يستوعب النتائج التي ستترتب على السير في ركاب “حزب الله”، وهو لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، استنادا الى معادلة السلاح يحمي الفساد.
مثل هذا الجهل بالسياسة الأميركية، خصوصا لدى قسم من مسيحيي لبنان ولّد خرافات واساطير ورثها جيل بعد جيل بنيت عليها سياسات خاطئة، بل ذات طبيعة، اقل ما يمكن ان توصف به انهّا كارثيّة. ردّد جبران باسيل احدى تلك الخرافات، بعد فرض العقوبات عليه، في معرض كلامه عن الصمود المسيحي في وجه التوطين، أي في وجه رغبة أميركية في توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ردّد رواية، من النوع المضحك، عن ان دين براون مبعوث الإدارة الأميركية الى لبنان في أواخر العام 1975، ابلغ الزعماء المسيحيين ان السفن جاهزة كي تبدأ عملية تهجير المسيحيين من لبنان كي يحلّ مكانهم اللاجئون الفلسطينيون!
اخترع بعض المسيحيين اللبنانيين هذه الكذبة التي انتشرت كالنار في الهشيم وصدّقوها، وذلك في معرض تسويق وجود مؤامرة عليهم تبرّر الاستمرار في تشكيل ميليشيات وحمل السلاح والدخول في مواجهات مع المسلّحين الفلسطينيين. لا مجال، طبعا، للدفاع عن تصرّفات الفصائل الفلسطينية في لبنان منذ توقيع اتفاق القاهرة في مثل هذه الايّام من العام 1969، لكنّ على المسيحيين، ان يسألوا نفسهم، قبل ايّ طرف آخر، كيف يمكن القبول باتفاق يشكل اعتداء واضحا وموصوفا على السيادة اللبنانية، مع ما يعنيه ذلك من بداية النهاية للبلد الذي لعبوا دورا أساسيا في قيامه قبل مئة عام؟
كانت التصرفات الفلسطينية في مرحلة ما بعد اتفاق القاهرة، وحتّى قبلها، جريمة في حقّ لبنان، لكنّ المسؤولين الاميركيين لم يسعوا في ايّ يوم الى التوطين.
على العكس من ذلك، حذروا مرارا من اللجوء الى السلاح وتشكيل ميليشيات. كان روبرت اوكلي، الذي اصبح بعد ذلك سفيرا، مستشارا سياسيا في السفارة الأميركية في بيروت بين العامين 1971 و 1974. اكّد اوكلي، في حديث طويل ادلى به، بعد تقاعده، الى موقع تابع لوزارة الخارجية الأميركية، انّه حرص قبل مغادرته لبنان على زيارة كلّ زعيم مسيحي في البلد على حدة والتأكيد له انّ أحداً في الغرب لن يهبّ الى نجدة المسيحيين في حال دخولهم مواجهات بالسلاح. خلص الى القول انّه كان يتحدّث الى اشخاص لا يريدون سماع أي نصيحة أميركية. اكثر من ذلك، كانوا يرفضون تصديق ما يقوله لهم.
ماذا عن الكذبة الكبيرة التي اسمها دين براون والسفن؟
دين براون توفّى، لكن بقي على قيد الحياة الديبلوماسي الأميركي الذي رافقه في زيارتيه الأولى والثانية للبنان. كانت الزيارة الأولى هي المهمّة. يقول الديبلوماسي الأميركي، الشاب وقتذاك، الذي اصبح في ما بعد سفيرا، ان مهمتّه كانت مقتصرة على تسجيل محاضر اللقاءات بين دين براون والزعماء اللبنانيين.
روى كيف استدعى هنري كيسينجر، وكان وزيرا للخارجية، دين براون لتكليفه مهمّة في لبنان أواخر العام 1975. قال كيسينجر لدين براون: اذهب الى لبنان ووفّر لي وقتا كي افكّر في كيفية تفادي نزاع اقليمي بسبب الوجود الفلسطيني المسلّح في هذا البلد. أوضح له انّه كان منشغلا بمرحلة ما بعد حرب فيتنام (انتهت الحرب في 30 نيسان – ابريل 1975) وكانت كل التقارير التي تصل الى الخارجية تشير الى ان الازمة في لبنان ذات طابع داخلي فقط، لكن يبدو الآن انّها صارت ازمة إقليمية.
يقول الديبلوماسي الذي رافق دين براون ان الأخير امضى فترة طويلة في لبنان وعمل ما طلب منه كيسينجر عمله، أي “خلق اكبر كمّية من الدخان”، كي تبدو الديبلوماسية الأميركية مهتمّة بلبنان، وكي يتسّع الوقت لايجاد مخرج.
عاد دين براون الى واشنطن بعدما ابلغه كيسينجر انّه وجد الحلّ بضوء اخضر اسرائيلي. قضى الحلّ بان يدخل الجيش السوري لبنان كلّه ويسيطر على مواقع “مسلّحي منظمة التحرير الفلسطينية” كلّها.
استنادا الى الديبلوماسي الأميركي الذي كان يسجّل المحاضر، تنفّس دين براون الصعداء وانصرف معتبرا ان مهمتّه، التي لم يأت فيها على ذكر تهجير المسيحيين وتوطين الفلسطينيين، انتهت. لم تمض ايّام الّا ويستدعي كيسينجر دين براون مجددا، فحضر مع مساعده. ابلغهما ان تعديلات طرأت على الخطة الاصلية لدخول الجيش السوري الى لبنان وان إسرائيل رسمت خطوطا حمر للسوريين. لن تسمح للجيش السوري ببلوغ خط الهدنة على الحدود بين لبنان وإسرائيل، بل سيبقى المسلحون الفلسطينيون في الجنوب. يتذكّر الديبلوماسي الأميركي ان دين براون سأل وزير الخارجية عن سبب التغيير في الموقف الإسرائيلي، فاجابه كيسينجر ان رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين يفضّل ذلك من منطلق ان “إسرائيل في حاجة الى الاشتباك مع الفلسطينيين بين وقت وآخر”!
هذه رواية لشخص حيّ يرزق يشرح فيها بالتفاصيل المملّة ما حصل مع دين براون في لبنان الذي عاد اليه مرّة واحدة بعد ذلك اثر خطف عناصر من “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” بطلب من معمّر القذّافي، السفير الأميركي في بيروت فرنسيس ميلوي تمهيدا لاغتياله.
من اين جاءت رواية عرض دين براون على مسيحيي لبنان الهجرة؟
الجواب بكل بساطة انّها نتاج عقل مريض لعب دورا كبيرا في إيصال لبنان الى ما وصل اليه، عقل مثل عقل جبران باسيل لا يعرف شيئا عن اميركا ولا عن سياسة اميركا.
عقل يؤمن بانّ “حزب الله” جمعية خيرية وانّه أوصل ميشال عون الى موقع رئاسة الجمهورية… من اجل المحافظة على الوجود المسيحي في لبنان، هذا الوجود الذي كان دين براون يريد التخلّص منه!