بثَت قناة “العربية” التلفزيونية يوم الجمعة (3/8/2007) برنامجاً حضارياً يتناول جانباً أساسياً من الأزمة الحضارية العربية، ونقصد عدم وجود سياسة عربية تنويرية لحركة الترجمة، ورواج الكتب الهابطة التي تعنى بقضايا الطبيخ وقضايا السحر والشعوذة، بالإضافة إلى إغراق السوق العربية بالكتب التي ظاهرها ديني، بينما هي ترويج للتطرف الأعمى، وإضفاء صفة القدسية والشهادة على الإرهاب والكراهية العمياء للثقافات الإنسانية الأخرى، والقَدَرِية التي تجعل الإنسان عاجزاً عن التفكير الحر وعاجزاً عن العمل الفعال لتغيير الواقع العربي.
إن العالم كله يعيش يقظة علمية مدهشة، فبالإضافة إلى دور النشر
التي تقدّم للشعوب نتاجاً حضارياً، علمياً واقتصادياً وأدبياً وفنياً واجتماعياً منوعاً هناك ثورة الكومبيوتر التي تتسع لتشمل مئات ملايين الناس. وبحق قال أحد المتكلمين في البرنامج إن اتساع استخدام الكومبيوتر يمكن أخذه مؤشراً ممتازاً على ديناميكية وحضارية ورقي أي شعب من الشعوب. ومن الواضح أن هذا المؤشر ليس لصالحنا، نحن العرب حالياً.
وقد أفاض ثلاثة أساتذة محترمون في تحليل مأزق عملية الترجمة في الأوطان العربية وعدم الاتفاق، عربياً، على ترجمة الاصطلاحات العالمية، مما يجعل من الأسهل على المثقفين العرب أن يقرأوا الكتب بالانجليزية أو الفرنسية مثلاً وليس الترجمة العربية لهذه الكتب!
وقال أحد المفكرين إن العرب، في العصر العباسي، قاموا بعملية ترجمة شاملة وواسعة، برعاية من الدولة، خصوصاً في عصر المأمون. وخلال نصف قرن تمت ترجمة ألوف الكتب من اليونانية والفارسية والهندية، بما فيها الفلسفة والعمارة والطب والهندسة وغيرها من علوم العصر.
وبينما تقف ميليشيات الأصولية الدينية المتطرفة في أيامنا بالمرصاد للترجمة، فقد قال المأمون، الخليفة، العبقري والحضاري الفذ:” نرجو أن نترجم كل كتاب يوجد عربي يعرف لغته، من أية لغة كانت”. فقال له الغزالي الشيخ الأصولي: “ونترجم كتب الكفر يا أمير المؤمنين؟”فقال المأمون في شجاعة حضارية: نترجمها ونقرأها ولا نعمل بها.
ما قصده المأمون، وحركة الترجمة في العصر العباسي، هو ترجمة أكثر ما يمكن من حضارات الشعوب إلى اللغة العربية، لكي تغتني الثقافة العربية بكل كنوز الحضارة العالمية.
هل نبالغ إذا قلنا إن العرب في زمن المأمون كانوا أكثر انفتاحاً وأكثر نضجاً وأكثر تسامحاً وأكثر وعياً بأهمية معرفة كل الثقافة الإنسانية، أكثر من عربنا اليوم، أنظمة وشعوباً؟
هل نحن بحاجة إلى أن نحلل وحشية البطش والإرهاب السياسي والإرهاب الفكري والإرهاب الديني الذي يمنع ترجمة عشرات ألوف الكتب من الإنجليزية والفرنسية والروسية والإسبانية وغيرها إلى اللغة العربية!
هل نبالغ إذا قلنا إن الحصيلة الأساسية في الطفرة العالمية الراهنة للحضارة ليست في متناول القاريء العربي؟!
أشار المشاركون في الندوة وأنا أثني على ذلك-بأن دولاً “محافظة” مثل الكويت والمغرب أكثر ديمقراطية وأكثر انفتاحاً من الدول “الجمهورية” “القومية” “الثورية”. هناك ترجمات علمية واقتصادية وأدبية واجتماعية رائعة في الكويت، كما أن المجلات والصحف الكويتية تبدو أكثر عصرية وأكثر حضارية وأكثر انفتاحاً من أنظمة الديكتاتورية العسكرية في العالم العربي.
قال أحد الأساتذة، وهو محق في ذلك:” ليست المشكلة مالية أساسا.ً بإمكان كل دولة، إذا شاءت أن تجد المال الكافي لدعم الترجمة”.
المشكلة الحقيقية هي غياب المشروع النهضوي العرفاني، المنفتح على الحضارة العالمية، وغياب الإصرار المبرمج لنشر العقلية العلمية والعطش للمعرفة وقبول الأفكار الجديدة والأساليب الجديدة، وبالأساس- القبول الطبيعي للآخر عموماً، وللأفكار الأخرى عموماً.
إننا ما زلنا إلى الآن نسمع دجالين قومجيين ودجالين أدعياء التدين يعلنون في عنترية غبية “رفض الأفكار المستوردة”. هل تلاحظون هنا، أن كلمة “المستوردة” في سياق سلبي يشبه الكفر؟ إنهم يقبلون السيارات المستوردة وكل أثاث قصورهم مستورد، وحتى الخادمات في قصورهم مستوردة، كما أنهم يقضون أكثرية السنة في القصور في أوروبا، وأغلب الظن أنهم هناك يخلعون الحطّة والعقال ويتفرنجون تماماً!!
على النخبة الثقافية والسياسية والاجتماعية والجمعيات الأهلية أن تضغط على الأنظمة لتعميق وتسريع عملية الترجمة الشاملة.
وأكثر من ذلك فإن المعارضة في العالم العربي يجب أن لا ينحصر صراعها في المضمار السياسي المباشر، فقط، بل أن يشمل نشر الثقافة الوطنية الإنسانية والثقافات العالمية الديمقراطية والإنسانية ونشر العلم واحترام العلم وعدم الخوف من العلم، ونشر القِيَم الأساسية للحضارة المعاصرة وفي مقدمتها حرية الإنسان والشعوب وكرامة الإنسان والشعوب والمساواة بين بني البشر ومحاربة الفقر والظلم والعنصرية والحروب.
إذا نجحنا في الزيادة المستمرة للأجيال المشبعة بحب العلم والتقدم العلمي والاستفادة من كل ثقافة وافدة وتعلّم أكثر ما يمكن من اللغات الأجنبية، وإذا شجعنا الأجيال الصاعدة على المنهجية العلمية، فإننا نضع الأساس ليس فقط لنهضة علمية وثقافية متفاعلة مع العصر وعواصفه، بل نضع الأساس أيضاً لإسقاط أنظمة الجهل والتخلف والتطرف والفساد التي تحكم أوطاننا العربية وتُشبع شعوبنا جوعاً وذلاً وهواناً.
الناصرة
salim_jubran@yahoo.com
كتب الدين والطبيخ الأكثر رواجاً في دنيا العرب
“فقد قال المأمون، الخليفة، العبقري والحضاري الفذ:” نرجو أن نترجم كل كتاب يوجد عربي يعرف لغته، من أية لغة كانت”. فقال له الغزالي الشيخ الأصولي: “ونترجم كتب الكفر يا أمير المؤمنين؟”فقال المأمون في شجاعة حضارية: نترجمها ونقرأها ولا نعمل بها”.
ما هي الصلة التاريخية بين الخليفة المأمون والغزالي المأمون عاش في القرن الثالث الهجري والشيخ الغزالي عاش في القرن الخامس الهجري.