حاول الأزهر من مدة طويلة الانفراد بالفتوى، لأنه يرى نفسه الهيئة الوحيدة التي لها حق الحديث عن الإسلام باعتبارها هي ــ وحدها ــ المتخصصة في ذلك، وأنه ليس من المبادئ المقررة في ممارسات المعرفة تطفل غير المختصين على مجال غير تخصصهم، فلم يسمع بمهندس يتكلم عن القانون ولا بمحام عن الطب، ولكن ما أكثر المحامين والأطباء والمهندسين الذين يتحدثون عن الإسلام، كأنه كلأ مُباح، وكأنه ليس فيه أعلى مستويات الفنية والتخصص.
ولكي يُسوق الأزهر هذه الدعوى، ويبعد عن الطبيعة الذاتية لها فإنه يتكئ على “فوضى الفتاوى”، فجاء فى “الأهرام” (٢٢/١٢/٢٠٠٦) تحت عنوان “مجمع البحوث الإسلامية يضع ضوابط للإفتاء” [فى خطوة تتسم بالإيجابية تجاه فوضى الفتاوى والمتطفلين عليها من الهواة وغير المختصين الذين ازدحمت بهم شاشات الفضائيات، وصفحات الجرائد، قرر مجمع البحوث الإسلامية مخاطبة وزير الإعلام بالضوابط الواجب مراعاتها في العمل الإعلامي بجميع صوره المقروءة، والمسموعة، والمرئية تجاه القضايا الدينية، وعلى الأخص ما يتعلق بأمور الحلال والحرام] .
علماء المجمع حذروا من خطورة استعانة وسائل الإعلام وأجهزتها بمن سموهم “أدعياء الفتوى” واستقروا على ضرورة ألا تستضيف البرامج الدينية إلا المتخصصين في الشريعة الإسلامية، خاصة علوم الفقه الإسلامي، وأن يلتزم كل عالم بالتحدث في إطار تخصصه العلمي من عقيدة أو حديث، وتكون الأسئلة الموجهة له مراعية لذلك.
وجاء في “المصور” (١٧ يناير سنة ٢٠٠٧م ص ٤٤) تحت عنوان “فوضى الإفتاء على الهواء” أصدر مجمع البحوث الإسلامية بياناً رسميًا أكد فيه أنه المرجعية الوحيدة للإفتاء في مصر، وأن له حق التعقيب ــ وحده ــ على فتاوى دار الإفتاء المصرية. البيان يعني ببساطة نهاية عصر فتاوى شيوخ الفضائيات، الذين تسبب عدد منهم في حالة من فوضى الإفتاء على الهواء مباشرة، صحيح أن هذه الفتاوى تجد صدى وجمهورًا من البسطاء في مصر والعالم العربي.
لكن بيان المجمع يحاصرها الآن مشككاً في شرعيتها ومصداقيتها حالة الإفتاء الفضائي تتضخم دون علاج، والعلماء الكبار يؤكدون أن هناك دخلاء كثيرين اقتحموا الإفتاء عبر الشاشات الفضائية، فتوالت فتاواهم العجيبة والشاذة تصدم الرأي العام، وتتخطى القواعد الشرعية ذاتها.
وأخيرًا.. وجد الأزهر ضالته أن يسن قانونا لذلك خاصة، وقيض الله لهم نائبًا في مجلس الشعب يمكن أن يقوم بالمهمة، وهكذا قرأنا فى “المصرى اليوم” مانشيت “الأزهر يوافق على مشروع قانون يجرم إطلاق الفتاوى دون ترخيص” وجاء فيه : وافق الأزهر على الاقتراح بمشروع قانون، تقدم به النائب مصطفى الجندي، لتعديل قانون العقوبات حتى يسمح بتجريم كل من يطلق فتوى دون الترخيص به بالإفتاء، ومعاقبة من يفعل ذلك بالسجن ما لا يقل عن سنة، ولا يزيد على ثلاث سنوات.
وقال علي عبد الله الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية خلال اجتماع لجنة الاقتراحات والشكاوى بمجلس الشعب: إن هناك فوضى فى الإفتاء ساهمت فيها القنوات الفضائية المختلفة.
وأضاف أن الفتوى ليست هبة وإنما لها شروط، وكشف عن عدد من الإجراءات التى حددها الأزهر لمواجهة فوضى الإفتاء، وفي مقدمتها إعداد قانون يجرم الفتوى التى يطلقها غير المختصين استنادًا إلى الأفكار المستوردة التي تحاول نشر العنف والتطرف والتشيع، مثل الفتاوى الصارخة التى تبثها الفضائيات كإباحة المعانقة بين الشباب وزميلاتهم فى الجامعات، وهاجم عبد الله وزارة الإعلام بسبب منحها التراخيص لتلك الفضائيات، مطالبًا بوضع ميثاق شرف تلتزم به هذه القنوات، وشكا من قلة المساحة الممنوحة للأزهر في الصحف أو التليفزيون لنشر صحيح الإسلام.
ليسمح ليّ الأمين العام أن أقول إنه لم يكن موفقاً عندما ضرب مثلاً للفتاوى التى يطلقها غير المختصين كإباحة المعانقة بين الشباب وزميلاتهم في الجامعات، لأن هذه لم تكن فتوى، وإنما كانت تحليلاً لظاهرة انفلات الشباب وقد أعدتها إلى أن الآباء والأمهات ضربوا عرض الحائط بالحديث “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير”، وفضلوا الخاطب الغني، الذي يملك شقة ويستطيع أن يؤسسها ويدفع مهرًا كبيرًا، بحيث أصبح معظم الشباب لا يمكن أن يتزوج إلا في الثلاثين، وماذا يفعلون تجاه أقوي الغرائز طوال عشر سنوات تكون تلك الغريزة في عنفوانها؟
لقد حدث ما حذر منه الرسول، فظهرت صور انحراف مثل تبادل القبلات، وكان لابد أن تحدث لأنه رد فعل سيئ لفعل سيئ ، وكل فعل لابد له من رد فعل، فهذه هي طبيعة الأشياء وبدلاً من لوم الطلاب كان يجب لوم الآباء والأمهات الذين هم سبب هذه الظاهرة ، فأنا لم “أبح المعانقة” وإنما قلت عنها رد فعل سيئ لفعل سيئ، على أنها تدخل في باب اللمم الذى تكفر عنه التوبة والاستغفار، ونقلت صفحات من تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والزمخشري كلها تقول إن القبلة والضمة من اللمم.
ومعذرة عن إقحام هذه المعلومة، ولكن كان يجب إيرادها بعد أن ضرب بها أمين المجمع الأمثال للفتاوى التى يطلقها غير مختصين.
وقد دعيت لتقديم مداخلة في ندوة عن القانون الذى أريد إصداره فى برنامح “تسعين دقيقة” الذى يديره السيد معتز الدمرداش ولم أسمع من السيد النائب إلا فقرة أخيرة من كلامه كان يستنكر إصدار فتوى بتأييد حماس أو دعمها ماليًا، مما أعطى مؤشرًا له دلالته.
وعندما أريد رأيي قلت كلمة واحدة مثل هذا القانون “مرفوض”، مرفوض أصوليًا لأنه يمكن أن يمس حرية الفكر والاعتقاد التي يجب أن يتمتع بها كل أفراد المجتمع، وحرية الفكر للمجتمع هي كحرية الهواء للإنسان، إذا امتنع الهواء اختنق الإنسان، وإذا فقدت الحرية شـُل المجتمع، وهو مرفوض عمليًا لأن تجارب العالم كله منذ أن حكم على سقراط بالموت أن كل محاولات كبت الحرية وتقييد الفكر من مصادرة الكتب أو تصفية مؤلفيها لابد أن تفشل فى النهاية.
قد يقولون إن مواضع الفتوى ستكون هي حالات معينة تدخل في القضايا الفروعية والجزئية التى تطرأ للمسلم والمسلمة في الحياة الخاصة مثل قسمة الميراث، والحيض والنفاس، وطرق يمين الطلاق، وتسوية العلاقة ما بين زوج وزوجة .. إلخ، مما يتطلب فنا وتخصصًا، فنقول إن الأحكام في هذه القضايا الفروعية تعود إلى «أصول الشريعة». وأصول الشريعة محتاجة إلى تجديد بعد أن طال عليها الأمد وعجزت عن معايشة العصر.
على أنه من الصعب وضع خط يفصل ما بين الفتوى والاجتهاد، ما بين الحالات الفروعية والقضايا العمومية، فمن ذا الذى يمنع أحدًا من أن يسأل المفتي عن بلد يبيع الغاز بأسعار متدنية لإسرائيل، ويشترى الغاز من دول أخرى بأسعار عالية ليسد حاجته، إن المفتي الذى يصدر عن روح الإسلام لابد سيقول :«إنها حماقة وخيانة»، حماقة لأنه يبيع سلعة يحتاج إليها بسعر هابط ويضطر ليشتريها بسعر عال.
فأول بديهية لذي عقل أن يحتفظ بسلعته لنفسه حتى يكفي حاجته، وخيانة لأنه يبيع هذه السلعة المهمة ليقوى بها أشد أعداء الإسلام على محاربة المسلمين، فأي خيانة أشد من هذه ؟ فهل يمكن أن ينطق بهذه الفتوى أخذ «رخصته» من الأزهر ؟ إذا كان مفتي الديار المصرية عندما سئل هذا السؤال تمحل بشتى التعلات عن الإجابة.
إن الإسلام أيها السادة ليس حرفة، ليس مهنة، ليس سبوبة للارتزاق.
إن الإسلام يعنى الله، والكون، والوجود والمجتمع والإنسان.
فهل هناك أشد «عمومية» من هذا ؟
إن الإسلام نزل لينقذ الناس من الظلمات إلى النور ويرفع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم وأنتم تريدون إضافة قانون جديد إلى ترسانات قوانين الإرهاب !
يا مجلس الشعب. أوقف هذا المشروع المريب حتى لا تقيد الحياة الآخرة بعد أن قيدت الحياة الدنيا.
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة
نقلا عن المصري اليوم