من أخطر الحوادث النووية الاشعاعية التي شهدها العالم، من بعد حادثة تشرنوبل في أوكرانيا في 26 ابريل عام 1986، تلك الكارثة التي وقعت في مفاعل فوكوشيما دايتشي على الساحل الشرقي لليابان في مارس عام 2011، كنتيجة لزلزال بقوة 9 درجات على مقياس ريختر ضرب شرق البلاد وتسبب بدوره في حدوث موجات تسونامي قوية، حيث ارتفعت الحرارة في الوحدات الأولى والثانية والثالثة من المفاعل، ما أدى إلى انصهار قلب المفاعل وانطلاق غاز الهيدروجين داخل مبنى إحتواء المفاعل، مسببا حدوث انفجار لم يتسبب في أي وفيات. وهذا بطبيعة الحال يختلف عن كارثة تشرنوبل سواء لجهة الأسباب أو التداعيات أو الإصابات والأضرار، أو رقعة التلوث.
وعلى إثر ذلك صدرت الأوامر بإخلاء أولي لنطاق 3 كم من محيط المفاعل وشمل ذلك نقل 5800 مواطن يعيشون ضمن ذلك النطاق. كما نصح السكان الذين يعيشون ضمن نطاق 10 كم من المفاعل أن يبقوا في منازلهم، وفي وقت لاحق شمل أمر الإخلاء جميع السكان ضمن نطاق الـ 10 كم.
ومما لاشك فيه أن جاهزية الدولة اليابانية وامكاناتها المتطورة ساعدت كثيرا في التخفيف من الآثار الإشعاعية للكارثة، حيث أخليت مساحة 1100 كيلومتر مربع من سكانها مع نقل أكثر من 100 ألف مواطن إلى أماكن آمنة بنجاح. غير أن المسألة لم تنته عند هذا الحد، لأن الكارثة أدت إلى ارتفاع الأصوات ضد بناء المحطات النووية للتزود بالكهرباء من جهة، وضد الحكومة لفشلها في تأمين محطة فوكوشيما بصورة جيدة من جهة أخرى.
واليوم، وبعد مرور 12 عاما على الحادثة، لا تزال مساحات كبيرة من أراضي فوكوشيما ملوثة بالنشاط الإشعاعي، على الرغم من الجهود الضخمة التي بذلتها الحكومة اليابانية لتطهيرها، من تلك التي سمحت بعودة نحو ثلث السكان إلى مناطقهم، بعد أن تم تطهير المناطق السكنية والأراضي الزراعية من الجرعات الإشعاعية بنسبة 60 بالمائة. وبالتزامن ترتفع بعض الأصوات متساءلة عما إذا كان انفاق البلايين من الدولارات من المال العام على محو آثار الكارثة يعد عملا مجديا؟
يقول الخبراء أن المشكلة التي حالت دون نجاح عملية التطهير بصورة كاملة ومجدية خلال السنوات الفائتة هي أن العناصر المشعة طويلة العمر المنبعثة من الحادث من حيث الجرعة الاشعاعية تلتصق بجزيئات التربة بشكل قوي، وأن المصدر الرئيسي للتعرض للإشعاع بالنسبة للناس ينبع من أشعة غاما المنبعثة من التربة والأرصفة والطرق والمباني الملوثة والنباتات والحيوانات والأسماك الصالحة للأكل. وهكذا فإن مسألة تطهير الأراضي والأجواء من التلوث عملية معقدة جدا.
لقد كلفت عملية إزالة آثار الكارثة في فوكوشيما بلايين الدولارات، لكنها تسببت في الوقت نفسه في تعرض العمال المشاركين في العملية للإشعاع بشكل كبير، ناهيك عن أنها ولدت كميات هائلة من نفايات التربة المشعة. ومن ناحية أخرى فإن العملية منحت إحساسا بالطمأنينة من أن جرعات الإشعاع تم تخفيضها، إلا أن الإشعاع المنخفض أكثر خطورة مما قد يعتقد، طبقا للعلماء المختصين الذين أفادوا ايضا بأن معدلات الجرعات كانت منخفضة نسبيا في السنة الأولى للكارثة في العديد من مناطق فوكوشيما التي خضعت لعملية التطهير، وأنها انخفضت بشكل ملحوظ في السنوات اللاحقة، وهو ما سمح بإعادة الأراضي الزراعية إلى الانتاج بسرعة أكبر على الرغم من أن إزالة التربة السطحية أضرت بخصوبة الأرض.
ولكل هذه الأسباب والتحديات، برزت آراء تتبنى فكرة أن الخيار الأفضل يكمن في إعلان فوكوشيما منطقة محمية طبيعية، على أن تنفق الأموال المخصصة لإعادة تأهيلها للسكن والعمل والزراعة على العائلات المتضررة من الكارثة وعلى ذوي من أصيبوا بالإشعاع إبان مشاركتهم في أعمال التطهير. ويشير أصحاب هذا الرأي إلى ما حدث في أوكرانيا زمن الإتحاد السوفيتي، حينما وقعت كارثة تشرنوبل، حيث تم التخلي عن فكرة إزالة التلوث الإشعاعي بصورة واسعة النطاق لعدم جدوانها ــ وربما بسبب قلة الجهوزية والامكانيات مقارنة باليابان ــ وبالتالي تم إخلاء مناطق واسعة لا تزال فارغة حتى اليوم.
ولعل ما جعل كارثة فوكوشيما تعود اليوم إلى الأضواء هو قرار طوكيو في أغسطس الماضي بالبدء في التخلص من حوالي 1.34 طن من المياه الملوثة المخزنة عبر تصريفها في المحيط الهاديء بعد معالجتها وتخفيف كثافتها، في أعقاب سماح الوكالة الدولية للطاقة الذرية بذلك، وهو ما أثار الذعر داخل اليابان وفي الدول المجاورة
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي