يبدو ان مشروع “المقاومة” الذي تقوده ايران في المنطقة يتقدم على صعيد زيادة مسار التصدّع في البنيان المجتمعي العربي. ويرجح ان يستمر هذا المسار من دون توقف قريب بسبب الديناميات التي تسيّره، من المذهبية والطائفية الى مسألة الأقليات، وسواها من عناصر التنوع الذي تختزنه المجتمعات العربية منذ القدم.
ولأنّ مشروع “المقاومة”، كما نظّرت له ادبيات الحرس الثوري الايراني واحد فصائله حزب الله، يهدف الى انهاء اسرائيل من الوجود، وتحرير القدس، ونصرة المستضعفين على المستكبرين، يبدو انه حقق خلال السنوات الماضية عكس ما يتبناه او يدّعيه. فها هي الدول العربية التي اخترقها فيلق القدس في حال من التداعي والانقسامات، وما ادّعاء الانتصارات الايرانية في تلك الدول واستعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية في لغة المسؤولين الايرانيين سوى تعبير عن حقيقة مرة مفادها انّ قوة ايران متلازمة مع ضعف العرب، بل اضعافهم، في مؤشر واضح لسقوط ورقة التوت عن خطاب الامة الاسلامية وشعار الوحدة الاسلامية.
اما المستضعفون في الأرض فلا تنطبق عليهم مقولة “المستضعف” في التفكير الامبراطوري الإيراني اذا كانوا خارج منظومة الولاء لإيران. فكما “المقاومة” ينحصر تعريف “المستضعف” بمن يوالي الفقيه، فلا “مقاومة” ولا ثورة محقة لأحد في العالم العربي اذا لم يقدمّ فروض الطاعة والولاء والتبعية للمشروع الايراني. والشعوب وخياراتها ليست معيارا في تحديد الاهداف والاولويات للسياسة “الثورية” الإيرانية.
فعندما انفجرت ثورات الربيع العربي ذهبت ايران نحو تأييدها لكن مع محاولة لمصادرتها من خلال تسميتها بـ”الصحوة الإسلامية”. وأقامت العشرات من المؤتمرات السياسية والدينية في ايران من اجل تثبيت هذه التسمية كبديل عن “الربيع العربي”.
لم تدم طويلا مقولة الصحوة الإسلامية، اذ تلاها فورا مصطلح “التكفير” والأنكى مصطلح “الإرهاب”. وحتّى تأييد ثورات الربيع العربي من قبل ايران انكفأ. اما الثورة السورية فهي الوحيدة التي لم تنل وسام “الصحوة الاسلامية” ولا الربيع العربي، بل منذ البداية هي “مؤامرة على المقاومة وفلسطين وعلى المقامات الدينية الشيعية، وعلى الممانعة”. ولم يستفزّ الثورية الايرانية وخطاب “المستضعفين” لديها قتل عشرات الآلاف من المدنيين السوريين بسلاح النظام واجهزته، بل ظلّ الدعم الايراني بالسلاح والعتاد مستمرا وتضاعف من اجل حماية نظام الاسد.
الانتصارات الايرانية متلازمة مع اضعاف المجتمعات العربية ودولها، والاضعاف هنا ليس في الدمار الاجتماعي والعمراني وتصدع مؤسسات الدولة فحسب، بل من خلال ما وفّره التدخل الايراني من حصانة وقوة للانظمة العربية عبر الانخراط في مسار الاصطفاف المذهبي. فأيّ محاولة تحرّر من الاستبداد كانت عرضة لهجوم بسبب عدم ولائها لإيران. وباحت تتحوّل الى “عدوان” و”مؤامرة”. هكذا صمدت الانظمة العربية، وهكذا بدأت ايران بالسيطرة والتحكم، ليس عبر مشروع الدولة بل دعما لمشروع “المقاومة”، الذي لم يترجم على ارض الواقع الا كمشروع تجزئة وتفتيت للمجتمعات على اساس مذهبي بالدرجة الأولى.
فالمشروع الإيراني، باسم “المقاومة”، برّر جرائم الاسد ضد شعبه فقط لأنّ الاسد “ممانع”، بينما حجبت ايران صفة “المقاومة” عن تنظيمي “القاعدة” و”داعش” رغم انّهما قاتلا “الشيطان الأكبر” اكثر مما قاتلته ايران وحزب الله في المرحلة التي سبقت نزع صفة “الشيطان الأكبر” عن الولايات المتحدة الاميركية.
جرائم الاسد مشفوعة في ايران بحجة “المقاومة” و”الممانعة”، اما سواه فلا ذريعة تشفع له، لا الشعب السوري الذي ثار على الاستبداد ولا داعش والقاعدة يشفع لهما اسلامهما او قتالهما الغرب الاستعماري الذي طالما شجّعت ايران على قتالهما. هو المنطق وعكسه تحت سقف واحد، لكنّ الخيط الجامع بينهما هو التبعية والولاء. اما مفاهيم الأمة والوحدة الاسلامية ومفهوم نصرة المستضعفين فقد سقطت عند اول امتحان فعلي.
فضيحة المشروع الاسلامي الايراني انه يحقق انتصاراته، ويتباهى بها، ويرفع شعار الامبراطورية الفارسية، بالتلازم مع اضعاف البنية الاجتماعية والسياسية للشعوب العربية ودولها. ليس من يتراجع هو الغرب واميركا واسرائيل امام ايران، بل من يتراجع هم العرب كمجتمعات ودول فيما الأنظمة باقية. والانظمة الضعيفة هي شرط تمدّد النفوذ الايراني. اما الادارة الاميركية واسرائيل فليس ما يشير الى انّهما خاسران. مشروع المقاومة الذي تنظر له ايران استقر فعليا على قتال داعش وغيرها من المنظمات الجهادية السنيّة وفي العمق حماية انظمة الاستبداد. على اعتبار انّ الاستبداد شرط لا بدّ منه لتضمن ايران تمدّدها ونفوذها.
alyalamine@gmail.com
البلد