كنا نتمنى – طالما أن الحديث الطاغي اليوم في العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه هو عن ظاهرة الإحتباس الحراري وتداعياتها المناخية الخطيرة على حياة البشر والحيوان والنبات – أن تبادر إحدى حكوماتنا الخليجية إلى نقل إجتماع واحد فقط من إجتماعاتها الكثيرة من القاعات المكيفة المريحة إلى خيمة منصوبة في مكان ما من صحاري الخليج الواسعة الجرداء، فتناقش جدول أعمالها وتتخذ قراراتها تحت أشعة الشمس اللاهبة ورياح الصحراء الحارقة، وذلك كخطوة تستهدف بها إشعار العالم بأنها معنية بالقضية المذكورة مثل إهتمام الآخرين بها أو ربما أكثر، خصوصا مع إقتراب موعد إنعقاد قمة المناخ في العاصمة الدانماركية “كوبنهاغن” في السابع من ديسمبر الجاري. غير أن ظننا خاب وحلمنا تبدد كالعادة، وثبت أن بلداننا في الواقع غير معنية بهذا الأمر، بل تضعه في نهاية سلم أولوياتها على الرغم مما تعانيه من ندرة المياه وشح الأمطار وإرتفاع معدلات درجة الحرارة صيفا، وتغير سرعة وإتجاهات الرياح وكلها أمور لا جدال في أنها من تداعيات ظاهرة الإحتباس الحراري.
و هكذا لم نر إجتماعا حكوميا خليجيا يعقد فوق الرمال، أو خياما تنصب في العراء، أو طائرات هليوكبتر عسكرية تهبط و تقلع لنقل وزراء الحكومة، أو مسئولين يتجنبون الرياح الصحراوية و ما تثيره من أتربة بلف كوفياتهم حول أفواههم.
وبطبيعة الحال، فقد نجد العذر لحكوماتنا التي يبدو أن قضايا مثل فلسطين و العراق و الملف النووي الإيراني و مشاغبات طهران عند الخواصر الجنوبية و الشمالية للمنطقة سرقت منها إهتماماتها بالملفات الأخرى، و بالتالي لم تتمكن من الإقدام على مبادرة شبيهة بتلك التي أقدمت عليها دولتان صغيرتان مساحة وسكانا و موارد، بل تعتبران ضمن أفقر دول العالم، فكانتا بمبادرتيهما تلك حديث وسائل الإعلام المرئية و المسموعة و المكتوبة مؤخرا، بل قوبل ما أقدمتا عليه بالاستحسان و الإشادة من دول العالم قاطبة
فمن بعد قيام حكومة أرخبيل المالديف في السابع عشر من أكتوبر المنصرم بعقد إجتماع لها تحت أعماق مياه السواحل الشمالية للعاصمة “مالي”، برئاسة زعيم البلاد “محمد نشيد” و حضور 14 وزيرا من أصل 17 وزيرا (غاب إثنان بسبب مرضهما، وغاب الثالث بسبب تواجده في أوروبا في زيارة رسمية)، جلسوا جميعا حول طاولة على شكل حدوة حصان وهم يرتدون ملابس الغوص وأقنعة الغطس وكمامات الأكسجين، وذلك من أجل توجيه أنظار العالم إلى ما تواجهه بلادهم السياحية الجميلة من مخاطر إرتفاع منسوب مياه البحر على وجودها وديمومتها (حذرت منظمات الأمم المتحدة المعنية في عام 2007 من إحتمالات إختفاء جزر المالديف تحت سطح البحر بحلول عام 2100 كنتيجة لإرتفاع مستوى مياه البحر بنسبة 7 – 24 بوصة حتى ذلك التاريخ، خصوصا وأن 80 بالمئة من جزر الأرخبيل يوجد على إرتفاع قدم واحد فقط فوق سطح البحر).
من بعد تلك المبادرة التي إستعد لها وزراء الحكومة المالديفية بالتدريب على الغطس على يد متخصصين قبل إجتماعهم المذكور بنحو شهرين، فيما عدا رئيس البلاد المعروف بهوايته للغوص، قامت حكومة النيبال بعمل مماثل تقريبا، فإختارت الرابع من ديسمبر الجاري موعدا لعقد إجتماع طاريء لها، وإختارت منطقة “لوكلا” الواقعة في قمة إيفرست بجبال الهملايا ،على إرتفاع 5242 مترا عن سطح البحر، مكانا للإجتماع. وبطبيعة الحال فإن الزمان والمكان كان لهما دلالاتهما، حيث أختير تاريخ الإجتماع ليكون قريبا من موعد إفتتاح إجتماعات قمة كوبنهاغن للمناخ المقرر لها أن تستمر ما بين 7 – 18 من الشهر الجاري بحضور قادة كبار من أمثال الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” ورئيس الحكومة البريطانية “غوردون براون” والمستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” و الرئيس الفرنسي “نيقولا ساركوزي” ورئيس وزراء الصين “وين جياباو” ورئيس الحكومة الهندية “مانموهان سينغ”، وذلك من أجل تحديد أهداف لكل دولة من الدول الغنية حول ما يجب أن تتبعه لتقليل إنبعاثات الغازات السامة المسببة لظاهرة الإحتباس الحراري، وتحديد أهداف وإجراءات مماثلة للدول الفقيرة أيضا، مع جمع مليارات الدولارات والإتفاق على سبل وآليات إنفاقها على الإجراءات والخطوات المقترحة.
أما مكان الإجتماع فقد أختير، بحسب ما صدر عن رئيس الحكومة النيبالية ” ماداف كومار”، بسبب أهميته الحيوية لأكثر من 1.3 بليون نسمة من البشر في باكستان والهند ونيبال وبنغلاديش والصين من الذين يعتمدون عليه في الحصول على المياه. والجدير بالذكر في هذا السياق أن ذوبان الجليد في القمم الإفرستية بسبب ظاهرة الإحتباس الحراري أثر سلبا على منظومة مياه الأنهار في جنوب آسيا. كما أثر على أنماط هطول الأمطار، وهو ما أثر بدوره على حياة ومعيشة ثلث سكان نيبال البالغ تعدادهم 28 مليونا، والذين يعتمدون في ري محاصيلهم على الأمطار حصريا.
وهكذا إستضافت قمة إيفرست قمة للحكومة النيبالية، شارك فيها 24 من أصل 27 وزيرا (غياب ثلاثة وزراء كان بسبب تقدم بعضهم في العمر وبالتالي صعوبة إنتقالهم إلى مكان الإجتماع، و تواجد البعض الآخر في خارج الوطن) حملتهم مروحيات الجيش إلى أعلى قمم العالم وهم يرتدون المعاطف والسراويل الصوفية الثقيلة ويعتمرون القبعات الدافئة المصنوعة من الفرو، ويضعون عل أفواههم الكمامات المرتبطة بأوعية الأكسجين. هناك جلس الوزراء ورئيسهم البالغ من العمر 59 عاما على مقاعد متواضعة خلف طاولات خشبية مغطاة بأقمشة تمثل لوني العلم الوطني الأحمر والأزرق (لم ينس المنظمون أن يضعوا خلف مقعد رئيس الحكومة لافتة كتب عليها “كابينت ميتنغ” أي إجتماع الحكومة).
وعلى مدى أكثر من نصف ساعة تقريبا، تداول المجتمعون، وهم يحتسون أكوابا من الشاي الساخن ويقاومون الرياح الجليدية الباردة، نصوص ما سمي بإعلان إيفرست المتضمن لعشر نقاط، والمنتظر رفعه إلى قمة المناخ في كوبنهاغن كمقترحات من بلد عرف على الدوام بمناخها القارص بسبب موقعه الجغرافي، لكنه صار الآن بسبب ظاهرة الإحتباس الحراري عرضة لمتغيرات مناخية على المدى البعيد ( طبقا لدراسة أشرفت عليها جامعة أكسفورد البريطانية، ينتظر أن ترتفع درجة الحارة في النيبال بمعدل درجتين بحلول عام 2030 بسبب الظاهرة المذكورة).
من التوصيات التي تضمنها إعلان إيفرست:
· العمل على زيادة نسبة الأراضي المحمية
· تنمية قدرات المجتمعات والتجمعات البشرية على التأقلم مع المتغيرات المناخية
· العمل يدا واحدة مع كافة الدول والمنظمات الدولية والإقليمية من أجل تخفيف تداعيات وآثار ظاهرة الإحتباس الحراري إلى أدنى درجة.
· ضرورة تقديم الدعم الكامل للفكرة التي تقودها الدول مكتملة النمو حول تخصيص كل دولة لما نسبته 1.5 بالمئة من ناتجها المحلي الكلي لتمويل عملية إصلاح المناخ.
ومثلما لم تقل الحكومة المالديفية بأن إجتماعها تحت سطح البحر هو من أجل وضع حلول لقضية الإحتباس الحراري، مكتفية بإصدار وثيقة تدعو فيها إلى ضرورة خفض نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء بنسبة 350 جزء لكل مليون (هذه هي النسبة التي قال علماء المناخ بأنها كافية لوقف المزيد من التدهور البيئي) وضرورة إعداد إتفاقية جديد حول البيئة لتخلف إتفاقية “كيوتو” لعام 1997 والتي سينتهي مفعولها في عام 2012 ، فإن حكومة كاتمندو التي تعرف حق المعرفة ضعف إمكانياتها وقلة مواردها وتواضع نفوذها، لم تزعم أنها ستطرح من فوق قمم الهملايا حلولا ناجعة للقضية المذكورة، بل فعلت ما فعلته من أجل لفت الأنظار فحسب إلى قضية مصيرية بالنسبة لها، وإكتفت بتقديم التوصيات المشار إليها آنفا ضمن “إعلان إيفرست”.
وحول مدى أهمية قمة المناخ في كوبنهاغن و نوعية القرارات التي ستصدر عنها، هناك وجهة نظر تشيد بالفكرة وتعتبرها تحركا غير مسبوق، لأنه لم يعرف من قبل أن تضافرت الجهود العلمية والدبلوماسية معا حيال أية مشكلة خطيرة. وجهة النظر هذه عبر عنها بدقة البروفسور “مايك هيولم” أستاذ علوم البيئة في جامعة “إيست أنغليا” النرويجية الذي أضاف: “أنه لمن الجيد أن يجتمع ممثلو 192 دولة ليضعوا الخطوط العريضة لإتفاقية دولية حول تغير المناخ، محورها وهدفها الرئيس هو رسم التوجهات المستقبلية الخاصة بإستخدامات الطاقة و صور التمنية الإجتماعية وفق طريقة تمنع تغير المناخ بدرجة مئوية واحدة على الأقل”.
غير أن البروفسور “هيولم” بدا في الوقت نفسه متشائما من إمكانية التوصل إلى الإتفاقية المطلوبة خلال إسبوعين، بل قال: “حتى لو إفترضنا جدلا أن ذلك تحقق بطريقة ما، فما الذي يضمن قيام الجميع بتنفيذ بنود الإتفاقية بالشكل المطلوب؟ وما هو شكل العقاب الذي سيطبق بحق المخالفين؟ بل من سيطبق هذا العقاب إن وجد؟
ولعل أهم ما إستطرد فيه العالم النرويجي هو أن عبارة “التغير المناخي” تعني أشياء مختلفة للدول والشعوب المختلفة وفقا لإهتماماتها المتباينة. فمثلا الهند تهتم بالدرجة الأولى بإستخدام قضية تغير المناخ في الحصول على تقنيات وأموال إضافية لخدمة عملية نموها الإقتصادي. والصين تهتم بالقضية من زاوية الحيلولة دون المس بصناعاتها الرخيصة، وبالتالي تجارتها الخارجية المتنامية. بينما تتخذ البرازيل من القضية جسرا للحصول على مساعدات دولية معتبرة لأغراض حماية غاباتها الشاسعة، وهكذا!
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh
قمة فوق قمة
مؤتمرات القمة الخليجية تقوم على القول “أما بنعمة ربك فحدث”. هي عبارة عن مهرجانات ارستقراطية تعكس الثراء والفخامة ذات كلفة عالية بالنسبة لمخرجاتها.