تتجه الأنظار نحو سان بطرسبورغ عاصمة روسيا القيصرية، الثلاثاء التاسع من أغسطس، وذلك لمتابعة القمة بين “القيصر الجديد” المحارب المختال فلاديمير بوتين و“السلطان الجديد” المقاتل المنهك رجب طيب أردوغان. انطلاقا من ترميم العلاقات الثنائية التي تدهورت بعد إسقاط الطائرة الروسية وألغت قمة سابقة في نفس المكان في ديسمبر الماضي، سيكون مستقبل الشرق الأوسط القديم بما فيه تركيا الكمالية وتموضعها ودورها على جدول الأعمال. هل تتقاطع المصالح بين الطرفين بعيدا عن الالتزامات الأطلسية لأنقرة، وما هي الانعكاسات المُحتملة على المسألة السورية؟
ومما لا شك فيه أن هذا اللقاء الذي يأتي بعد الاستدارة الإقليمية التركية للتطبيع مع إسرائيل وروسيا، وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في أنقرة وبالتزامن مع التوتر التركي – الغربي واحتدام معركة حلب، يكتسب الكثير من الأهمية في هذه اللحظة الإقليمية الحرجة، وسيكون لنتائجه دور في بلورة ملامح الشرق الأوسط القادم.
منذ بروز المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر أي الصراع بين الدول الأوروبية حول تقسيم أملاك الرجل المريض (الإمبراطورية العثمانية) وتصفية الوجود العثماني في أوروبا، إلى تداعيات الحرب العالمية الأولى ونهاية السلطنة والاتفاقيات التي كادت تقضي على تركيا بشكلها الحالي، كان لروسيا والاتحاد السوفييتي دور كبير في مخاضات تركيا المعاصرة وأدوارها. واليوم بالرغم من التوتر الكبير حيال الملف السوري والانتقام الروسي التاريخي الذي سعى من خلاله بوتين لتحجيم الدور التركي في المشرق، أتى إحجام باراك أوباما عن إسناد الأطلسي لأردوغان خلال اختبار القوة مع موسكو نهاية العام الماضي، وكذلك التباينات الكبرى بين أنقرة ودول الاتحاد الأوروبي بخصوص ملف اللاجئين لتلقي بظلها على الصلات الغربية – التركية التي طغت على مسارها في الأشهر الأخيرة المقاربات المختلفة للورقة الكردية في النزاع ضد داعش ومجمل ملف ما يسمى الحرب على الإرهاب. وأتت المحاولة الانقلابية الأخيرة ليلة الخامس عشر من يوليو لتصب الزيت على النار وتلهب العلاقات التركية مع واشنطن وعواصم الغرب الأوروبي، إلى حد أن واشنطن المستضيفة لفتح الله غولن حليف أردوغان السابق وعدوه الأول اليوم، تريثت قبل إرسال رئيس الأركان إلى أنقرة ولن يأتي جون كيري إليها قبل نهاية الشهر الحالي، فيما أبقت برلين على خيوط الوصل بالرغم من انتقادها لمسار القبضة الحديدية والتطهير الذي يقوم به الرئيس التركي لتوطيد سلطته.
الملفت أن موسكو كانت أكثر تفهما من الغربيين للنهج الأردوغاني السلطوي، ولعبت على أوتار التناقضات الغربية – التركية على أمل إزعاج واشنطن وزعزعة الثقة بالشراكة الأطلسية مع تركيا رأس حربة الناتو في جناحه الجنوبي. أحد المؤرخين الملمين بالشأن التركي لا يستبعد أن يلوّح أردوغان بعصا التفاهم مع روسيا في مواجهة أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، تماما كما حدث في العام 1833 عندما كاد محمد علي باشا مصر أن يحتل إسطنبول بعد احتلاله بالفعل بلاد الشام وفلسطين، وحينها كانت بريطانيا وفرنسا في موقف متردد فلجأ الرجل المريض العثماني إلى روسيا ووقع معها اتفاقية هنكار اسكلة سي، وبموجب الاتفاقية تعهدت روسيا بالدفاع عن الدولة العثمانية. بالطبع، لا تتشابه ظروف الأمس البعيد مع اليوم، ولن يتم الوصول بسهولة إلى تحالف وريثيْ السلطان العثماني والقيصر الروسي ضد الغرب.
بالطبع، في زمن الاضطراب الإستراتيجي لم يهتم باراك أوباما بصيانة العلاقة مع حلفاء تاريخيين، وغرد أردوغان بعيدا في بعض المجالات، إلا أنه بالرغم من التباينات والتناقضات حيال مستقبل الأكراد والحرب ضد داعش والموقف من الوضع التركي الداخلي وإعادة تشكيل مؤسسة الجيش، لن يكون من السهل إتمام الطلاق بين أنقرة والناتو.
هناك الكثير من المصالح الاقتصادية المشتركة والمتشابكة بين روسيا وتركيا، لكن التقارب السياسي ليس يسيرا تبعا لمقاربات مختلفة إزاء الوضع السوري، كما حيال آسيا الوسطى والقوقاز وهي فضاءات تقاطع وتنافس بين الطرفين.
إلا أن العامل المصيري المستقبلي في تحديد التموضع التركي سيكون عاملا داخليا في المقام الأول. يدور حاليا نزاع كبير حول هوية تركيا ودورها، ويجهد أردوغان لانتهاز فرصة ما بعد الخامس عشر من يوليو ليعيد تركيا إلى ما قبل الكمالية مع ما يعنيه ذلك من تغيير لوجهها ولوجهتها، مما سيبعدها عن طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومما سيزيد من الهوة بينها وبين واشنطن وحلف الناتو.
يسعى رجب طيب أردوغان إلى أن يكون شريكا في قسمة النفوذ وتقاسم إرث الرجل المريض لهذا القرن أي العالم العربي، ولا يريد أن يعيد التاريخ نفسه ليكون الصراع حول تركيا أو ليمتد المقص الأميركي – الروسي إلى الخارطة التركية، كما هو الحال بالنسبة إلى خرائط المشرق.
بالرغم من التقاطعات الروسية على الساحة السورية مع إسرائيل وإيران تحت عين واشنطن، وبالرغم من السعي الإيراني الروسي لحسم معركة حلب وفرض القراءة الروسية لاتفاق كيري – لافروف حول سوريا، أتت التطورات الأخيرة جنوب حلب لتبين أن تركيا المنهمكة بمتاعبها الداخلية لم تسلم بالهزيمة في الملف السوري وأن أردوغان لن يذهب إلى سان بطرسبورغ كي يتبنى الرؤية “البوتينية” للحل في دمشق، ولن يسلم بتكريس الأسد ضمن الحل الانتقالي.
لا يزال عند أردوغان الكثير من الأوراق للعبها، إذ أن المصالح المتشابكة مع الرياض في الملف السوري وعلاقته المرتبة مع إسرائيل تمنحانه هامشا من المناورة، إلى حد أن فلاديمير بوتين بحاجة لمراعاته كي لا ينغمس في المستنقع السوري، ولكي يلجم البعض من مطالب طهران.
في مصارحة حديثه مع الرأي العام الأميركي يقول أوباما إنه متأكد من “أن جزءا كبيرا من الشيب الذي أخذ يغزو شعره سببه الاجتماعات حول سوريا”، ويضيف حرفيا “في كل اجتماع أفكر ما إذا كانت هناك خطة ما من شأنها إنقاذ الشعب السوري. الأمر ليس سهلا أبدا، في وجود رئيس لا يهتم بشعبه، ومنظمات إرهابية متوحشة، ومعارضة معتدلة وشعب دائما يكون الأقل تسليحا وإمكانيات”. إنه أوباما الذي لا يعترف بمسؤوليته عن الفشل السياسي والأخلاقي لسياساته في سوريا، فكيف إذا كان الأمر مع بوتين وأردوغان اللذين يتحملان قسطا كبيرا من مسؤولية درب الجلجلة السورية.
لن يتغير مجرى التطور التاريخي لمخاض الشرق مع لقاء سان بطرسبورغ، وستستمر المناورات والنزيف بانتظار التغيير الأميركي، لكن الجغرافيا السياسية ووقائع التاريخ تفرضان على بوتين وأردوغان المزيد من الواقعية بانتظار اكتمال حلقة اللاعبين والمنتصرين والمهزومين لبلورة شرق أوسط جديد على ركام كيانات سايكس – بيكو.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك