في يونيو 2000 كانت أنظار العالم بأسره متركزة على بيونغيانغ التي استضافت وقتئذ أول قمة بين زعيمي الكوريتين منذ انتهاء الحرب الكورية في عام 1953 التي كرست انقسام الشمال عن الجنوب. حول هذا الحدث التاريخي، الذي شبهه البعض بزيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى تل أبيب في عام 1977 من حيث غرابتها وفجائيتها والآمال التي بنيت عليها، كتبت وقتها مقالا تحت عنوان “سقوط آخر المستحيلات في آسيا”، بشرت فيه بقرب سقوط جدار برلين الآسيوي وتحقيق السلام الدائم في شبه الجزيرة الكورية.
غير انه سرعان ما تبين أن ذلك السلام لا يزال بعيد المنال، ولا سيما بعد تراجع نظام بيونغيانغ عن وعوده وركوبه مجددا قطار الخطب و الشعارات الجوفاء وإطلاقه التهديدات العنترية وتبنيه لسياسات واشتراطات غير واقعية. وهكذا لم تؤد تلك القمة التاريخية التي سعى إليها حثيثا الرئيس الجنوبي السابق “كيم داي جونغ” إلى نتائج ملموسة على الأرض سوى إقامة منطقة صناعية مشتركة في مدينة “كاوسونغ” الحدودية، وهي المنطقة التي كان يمكن أن تصبح نموذجا لتعاون الجانبين بصورة أكبر لولا تراجع الثقة بينهما، بدليل أنها لم تجذب حتى الآن سوى 25 شركة صناعية جنوبية صغيرة من تلك التي تدير أنشطتها باستخدام عمالة الشمال الرخيصة.
ومن هنا فان القمة الأخيرة التي عقدت في الأسبوع الماضي في بيونغيانغ بين الرئيس الجنوبي “روه مو هيون” ونظيره الشمالي “كيم جونغ ايل” لم تكن مثيرة كسابقتها، بل نظر إليها كوريون جنوبيون كثر بعين الشك و الارتياب لجهة تحقيقها الانفراج المطلوب. واستمر هذا المنحى حتى بعد صدور البيان المشترك عن القمة، خاصة و أنه احتوى على عبارات فضفاضة وجملة من الوعود التي تحتاج إلى اجتماعات تالية مكثفة بين الجانبين لبلورتها ووضعها في صيغة اتفاقيات ملزمة. وهذا بحد ذاته يشكل تحديا كبيرا في ضؤ ما عرف عن بيونغيانغ من تشدد ومراوغة، فضلا عن عدم وجود ما يؤكد أن خليفة الرئيس روه الذي ستنتهي ولايته في ديسمبر القادم سيلتزم بما تعهد به سلفه، خاصة إذا ما كان الرئيس القادم إلى القصر الأزرق في سيئول هو المرشح الرئاسي المحافظ “لي ميونغ باك” الذي تشير استطلاعات الرأي حاليا إلى تقدمه.
فالأخير صدر عنه انتقادات مريرة بحق الرئيس روه لأنه لم يكن حازما بما يكفي مع بيونغيانغ حول ملف الشمال النووي، ولأنه قدم تنازلات كبيرة دون أن يحصل على مقابل مجز من ديكتاتور كوريا الشمالية الذي يبدو انه خيب آمال ضيفه و شعب كوريا الجنوبية برفضه عدم مناقشة موضوع أكثر من 480 كوريا جنوبيا من الصيادين الذين دخلت مراكبهم مياه الشطر الشمالي وتحتجزهم بيونغيانغ في معتقلاتها مع سجناء من أيام الحرب الكورية.
على أن المرشح الرئاسي المحافظ لم يكن وحده مصدر الانتقادات. فآخرون كثر ساروا على نهجه متهمين رئيس البلاد بقبول الإهانة و التفريط بهيبة الرئاسة وكرامتها، وذلك بقبوله الطريقة التي استقبل بها.
فالرئيس روه الذي تقول سيرته الذاتية انه كان ذا ميول يسارية، بدا سعيدا بتحقيق حلم لطالما راوده بعبور الحدود إلى الشمال قبل انتهاء ولايته لعقد قمة مع كيم ايل جونغ ، ثم بدا اسعد بسبب ما عده إنجازا وهو قبول بيونغيانغ بتضمين البيان المشترك إشارة عابرة إلى الموضوع النووي في صيغة “بالنسبة للمسألة النووية في شبه القارة الكورية اتفق الجانبان على العمل معا من اجل تطبيق سلس للاتفاقية المبرمة” أي الاتفاقية التي توصلت إليها الأطراف الستة المعنية بتخلي بيونغيانغ عن برامجها النووية وهي الكوريتان والولايات المتحدة و الصين و روسيا واليابان.
وهو في غمرة هذه السعادة لم يكترث بتجاوز البروتوكولات من اجل أن يدخل التاريخ كمساهم في صنع السلام في شبه الجزيرة الكورية، فعبر الخط الفاصل بين الكوريتين على الأقدام، وقبل أن ينتقل بسيارته إلى عاصمة الشمال برفقة مسئول كوري شمالي من الدرجة الثانية، وقبل أن يكون في استقباله في بيونغيانغ الرجل الثاني في النظام الشمالي “كيم يونغ نام”، وقبل أن يسير طويلا على قدميه إلى مدخل القاعة الثقافية الكبرى حيث كان يقف الديكتاتور كيم جونغ ايل محاطا بحرسه.
وهكذا بدا المشهد وكأنما كان مقصودا ومرتبا من قبل زعيم الشمال الذي تستهويه الحركات المسرحية لتأكيد أنه الرئيس المبجل للأمة الكورية بأسرها وخليفة القائد الملهم “كيم ايل سونغ”، دونما اكتراث بحقيقة أنه زعيم نظام معزول و شعب جائع فيما الضيف القادم هو رئيس الدولة الثالثة عشرة بين اقتصاديات العالم وزعيم شعب يتمتع بأحد أعلى الدخول الفردية في العالم.
وقريبا سيكون ما اتفق عليه في البيان المشترك للقمة الأخيرة أمام اختبار صعب، وذلك حينما يجتمع وزيري دفاع البلدين للتداول في مسائل معقدة من تلك التي ينظر إليها كمفتاح لحل بقية المسائل و تعبيد الطرق أمام معاهدة سلام شاملة. من هذه المسائل موضوع الأمن و السلاح في شبه القارة الكورية، وهو موضوع شائك و معقد في ضؤ تمسك الجنوبيين بتحالفهم الاستراتيجي مع واشنطون و الذي ضمن لهم الأمن وحققوا في ظله نهضتهم الاقتصادية المشهودة، وإصرار الشماليين على إخلاء شبه الجزيرة من القواعد والقوات الاجنبية في إشارة إلى نحو 30 ألف جندي أمريكي يرابطون حاليا في الشطر الجنوبي. وهذا الإصرار الشمالي يقابله قلق الجنوبيين من رفض بيونغيانغ تخفيض ترسانتها الضخمة من الأسلحة التي لا تتناسب مع حجم البلاد والضرورات الدفاعية، وتخفيض عدد قواتها البالغ نحو 1.1 مليون عنصر والذي يرابط معظمه خلف المنطقة منزوعة السلاح القريبة جغرافيا من العاصمة سيئول.
ومن المسائل الأخرى المعقدة، موضوع الخط الفاصل ما بين شطري كوريا في مياه البحر الأصفر والمحدد من قبل الأمم المتحدة، و الذي لا يسمح لقوارب الصيد الشمالية أن تتخطاها جنوبا. حيث تصر بيونغيانغ على إلغاء الخط، فيما يشدد الساسة المحافظون في سيئول ومعهم بعض جنرالات الجيش على التمسك به، علما بأن بيونغيانغ تحدت هذا الخط أكثر من مرة عبر أعمال استفزازية كتلك التي حدثت في عامي 1999 و 2002 وأسفرت عن معارك دموية ومقتل بحارة من الطرفين. وقد تطرق بيان القمة الأخيرة إلى هذا الخط بالقول أن الطرفين اتفقا على استحداث منطقة مشتركة للصيد لتفادي الحوادث و الصدامات، على أن يتولى وزيري دفاع البلدين وضع الترتيبات اللازمة لبناء الثقة وتحويل هذه المنطقة إلى نموذج للسلام و التعايش. إلا انه سرعان ما تبين أن ما تعتبره سيئول مجرد فتح المنطقة المحظورة أمام سفن الصيد الشمالية، لا يفي بمطالب بيونغيانغ.
وأخيرا، إذا كانت إحدى ثمار القمة الجيدة هي الاتفاق على إرسال وفد رياضي مشترك إلى اولمبياد 2008 في بكين، فان هذا أيضا قابل للانتكاسة بسبب حذر وتردد بيونغيانغ حيال مقترحات سيئول الداعية إلى تهيئة الطريق لذلك عبر تسهيل التبادل الثقافي وحركة الأشخاص والوفود وتطوير خطوط سكك الحديدية الرابطة بين شطري البلاد وصولا إلى أراضي الصين في أقصى الشمال.
elmadani@batelco.com.bh
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية