في ذكرى استقلال لبنان هذه السنة، وعلى وقع الحرب على غزة، افكّر باستقلال لبنان وفلسطين. وفي ذكرى استقلال الاوطان، افكّر بإستقلال الإنسان أيضا، وأبدأ بالإنسان.
الإنسان المرأة اولا. لم تكن المرأة تابعة للرجل، كانت مستقلة، لا بل كانت على رأس ما عُرف بالمجتمع الامومي، لكن هذا الرأس الانثوي لم يستتبع الآخرين، لا رجالا ولا نساءً.
مع سيطرة الرجل على المرأة، بالقوة اولا، ومن خلال المؤسسات والدين والقيم الاجتماعية لاحقا، فقدت المرأة استقلاليتها واصبحت تابعة للرجل، في نظام ابوي سُمّي بالبطريركي.
ناضلت المرأة من أجل استعادة استقلاليتها، نجحت في بعض البلدان، ولا زالت تناضل في بعضها الآخر، كلبنان مثلا. قاوم الرجل محاولات المرأة الاستقلال عنه والتساوي معه، وعندما اعترف لها ببعض الحقوق، حرص أن يكرس ضمانات تحافظ على تبعيتها له، من خلال قوانين الأحوال الشخصية والزواج، والعادات والتقاليد، فضلا عن التمييز ضدها في العمل، واستئخار حصولها على الحقوق السياسية.
الانسان العامل ثانيا. كما ان المرأة لم تكن تابعة للرجل، كذلك لم يكن العامل تابعا لصاحب العمل، بل كان يعمل لحسابه كحرفي مستقل، قبل ان يحوّله النظام الرأسمالي الى أجير، يقرر عنه الرأسمالي ماذا ينتج وكيف وفي اية شروط ومقابل اي أجر.
مع اضطرارهم الى الاعتراف للعمال ببعض الحقوق تحت ضغط الاحتجاجات العمالية والنقابية، سعى الرأسماليون الى اقرار ضمانات عبر قوننة هيمنتهم وتأبيد قهرهم واستتباعهم للأجراء بالدساتير والقوانين او بالعقود الفردية والجماعية، وجميعها تضمن حماية النظام الرأسمالي باركانه الاساسية، من ملكية فردية وحرية سوق عمل وفصل بين الرأسمال والعمل لصالح هيمنة الرأسمال على العمل.
علّمنا التاريخ ان المقهور يطالب القاهر بحقوق، تحميه نسبيا من بطش القاهر، فيما يعمل القاهر على ترسيخ ضمانات تديم هيمنته، ولو تنازل للمقهور عن بعض الحقوق.
ضمانات القاهر مستترة نوعا ما في النظامين المذكورين، لا سيما في حالات السلم بين القاهر والمقهور. اما في حالات الحرب او التدخل المباشر للسلاح في العلاقات الاجتماعية، فنرى القاهر يطالب بضماناته بكل وقاحة وفجاجة.
فلسطين دولة غير مستقلة، تحتلها اسرائيل، وتقهر شعبها، قتلا وتعذيبا وتهجيرا وتحقيرا. وفي كل المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين، او من خلال وسطاء اقليميين او دوليين، تطالب بضمانات لأمنها، بوجه مطالبات رفع الاحتلال. انها قمة القهر، ان يطالب القاهر المقهور بضمانات.
ببن الرأسمالي والعامل، بين الرجل والمرأة، القهر اقل وقاحة، اكثر تسترا، يشرعن ضماناته في إطار من الصراع المجتمعي المتواصل والسلمي. حتى انه يستخدم مصطلح “ضمانات”، بخبث، عندما يتكلم عن “الضمان الاجتماعي”، او عن “ضمانات” للمرأة تخفظ لها بعض الحقوق بوجه تعسف الرجل في العلاقات الزوجية.
لبنان مثل فلسطين دولة غير مستقلة، حدودها مشرعة، لا سيادة لها على ارضها بوساطة جيشها، وقراراتها مع الخارج- وهي ابرز معايير الاستقلال- لا تُتخذ في اطار مؤسساتها الدستورية، بل يحتكرها حاليا تنظيم لبناني مسلح اسمه “حزب الله”.
“حزب الله” لا يحتل لبنان، بل يهيمن عليه من الداخل، ويُفقد دولته استقلالها. معيار الاستقلال في الدولة، ليس فقط مدى التبعية للخارج، بل مدى حرية وديموقراطية اتخاذ القرارات السياسية في الداخل. بهذا المعنى، وفي غياب اي احتلال خارجي فعلي للبنان حاليا، معضلة الاستقلال اليوم هي معضلة هيمنة “حزب الله” على القرار السياسي في لبنان، بقوة السلاح.
ولأن علاقات القهر بالسلاح تتشابه في جوهرها، حتى ولو اختلفت تسمياتها ودوافعها واطرافها، نلاحظ أن “حزب الله”، وكما إسرائيل، يطالب علنا او سرا، بضمانات أمنية- سياسية، تحت عنوان “حماية ظهر المقاومة”، في كل مرة يُطرح فيه موضوع سلاحه كأداة هيمنة على اللبنانيين. غير مدرك أن الضمانة الوحيدة له، هي أن يتوقف عن إدارة ظهره للبنانيين، بدل الخوف عليه، والتصالح معهم في دولة مستقلة تستوعب سلاحه، في إطار استراتيجية دفاعية تقرها دولة هو جزء منها.
(“النهار”)