أثارت محاضرة المفكر النرويجي، من أصل عراقي، وليد الكبيسي، “العربية كلغة عالمية ثالثة”، زوبعة من النقد الايجابي والسلبي أيضا. ولم تخلُ تلك الزوبعة من ردود غير جدّية، مما اعتدنا عليه من التهم المعلّبة والجاهزة، وهي المؤامرة لتدمير اللغة العربية، والتخوين والتحدث عن سوء نية الكاتب وكأنهم شقّوا عن قلبه.. وقد نشرت المحاضر ة على صفحات الشفاف وهذا ما يتيح للقاري الأطلاع عليها وتقييمها شخصيا.
أنهم لا يعرفوا أدب الحوار: أذ ليس المطلوب أن نكون “مع” أو “ضد” رأي الكاتب، بحسب القاعدة السائدة الآن، أو هي” التقليعة والفاشن”، في عصر التطرف، الذي لا يعرف الاعتدال واعتماد الحوار والمناقشة، بل يكون موقفنا مع أو ضد، وليس ثمة موقف ثالث..
لا شك أن المحاضرة، مشوقة في سلاسة عرضها- وسأتطرق لاحقا للغة التي كتبت فيها- وغنية بالمعلومات المفيدة والجديدة، بالنسبة لكثيرين منّا، وتدل على سعة اطلاع ومعرفة، رغم أن اختصاص الكاتب هو الهندسة وليس اللغة.
أتفق مع الكاتب، على ضرورة نزع القداسة عن اللغة العربية وعدم ربطها بالقرآن الكريم. اذ برأيي أن اللغة كانت أسبق في الوجود من القرآن ولم تأت مصاحبة له أو من أجله. وكذلك عدم ربطها بالقومية العربية، أي عدم ربطها بالمشروع السياسي العربي. فاللغة والدين والعروبة، هذا الثالوث الذي أستعار له الكاتب الوصف اللاهوتي “الأقانيم الثلاثة”، يعني أن أي تطوير أو تحديث لغوي، هو استهداف للأمة العربية في دينها وهويتها، ما يعني أن الدين والسياسة قد صادرا الثقافة العربية ولغتها.
وهذا ما يجب عدم السماح به، حفاظا على وحدة الأمة. فاللغة العربية، باعتبارها الوعاء الحاضن للثقافة العربية، هي نتاج جهود أعراق وديانات وثقافات مختلفة، تتفاعل وتنتج وتبدع في فضاء اللغة العربية. فحضارتنا القديمة، وهي كل ما تبقّى لنا من مفاخر، في زمن الانحدار الذي نحن شهود عليه، قد ساهمت فيها ثقافات الشعوب التي وصلها الفتح الاسلامي. فتلك البلاد لم تكن خاوية، ولم تكن معدومة الثقافة واللغة، كالفراعنة والكنعانيين وسكان بلاد الشام، بالاضافة الى التأثير الثقافي للحضارة الفارسية، واسهاماتها في رفد ثقافة هذه المنطقة الناطقة باللغة العربية.. وفي المقابل أيضا، فان الثقافة العربية هي أيضا قد ساهمت بنصيبها في بناء الحضارة الانسانية، كإسهامات مفكرين مثل ابن رشد.
لكن قد أختلف مع الكاتب الكبيسي، في اعتباره اللغة العربية، لغة جامدة وغير متطورة، والأمثلة التي أوردها ليست بالدقة المطلوبة. فنحن اليوم لا نتكلم اللغة العربية القديمة، أي لغة العصر الجاهلي او العباسي…الخ.. ولا نتكلم لغة الأصفهاني وابن مالك، بل تكاد لغتهم تستعصي على الفهم، بدون مساعدة المعاجم والهوامش.. شهدت الثقافة العربية، وفي فترات الانتقال التاريخي من عصر الى عصر، ذات ما نشهده اليوم من مطالب التجديد والتحديث تفرضه متطلبات العصر.. وفي فترات التحديث تلك، وجه المجددون النقد للأدب والشعر، نقدا قاسيا وساخرا في بعض الأحيان، وكان نقدهم موجها للأدب معنى ومبنى، ما أثار حفيظة الفريق المحافظ، ومقاومتهم للتيار الجديد والمتجدد، الذي كان يفرض نفسه على اللغة والمجتمع..
فلو قرأنا كتابا عربيا من فترة العصر العثماني، وآخر من عصر النهضة، وكتابا من العصر الحديث لأمكننا تمييز العصر الذي كتبت فيه تلك الكتب. فلغة المنفلوطي غير لغة جبران، أو مارون عبود أو يوسف ادريس… ولو أخذنا مثالا من حياتنا اليومية، نجد أن بعض مفردات قد استعملنها جداتنا وقد سقطت من قاموس أمهاتنا.. وبعض مفردات امهاتنا قد أسقطناها من قاموسنا.. وكثيرا ما نستعرض ونستذ كر، في جلساتنا، العديد من تلك المفردات القديمة، وأحيانا تثير ضحكنا… لذا فان التطور الطبيعي والتغيير حاصل، وان بوتيرة بطيئة، ولا يتم نتيجة جهد علماء اللغة، او وفق برنامج مدروس. انما هو التطور الطبيعي لسنة الحياة والتغييرات الاجتماعية التي تفرض نفسها.
لغة شكسبير غير سائدة الآن، وهي توازي اللغة الجاهلية عندنا، وكلا اللغتين غير مستعملتين اليوم، الاّ في نطاق الدراسة. أذكر أننا في منهاج البكالوريا اللبنانية، كان علينا دراسة مسرحيتين لشكسبير بلغته القديمة، الى جانب دراسة المعلقات من العصر الجاهلي، فيما كان المنهاج الدراسي بكامله، باللغة الفصحى البسيطة..
لكن ذلك لا يمنع تحديث تلك الأعمال الأدبية القديمة، بلغة ميسّرة، اذ من حق الاجيال الجديدة، الاطلاع على تراثها والتواصل معه، حتى لا يبقى محنطا في كتب الأقدمين، وحكرا على أصحاب الاختصاص. وهذا بالضبط ما أشار اليه الكاتب، وأعطى مثالا على ذلك ، عملية تحديث الأدب النرويجي القديم. فأصبح بإمكان كافة الأجيال وبمختلف الأعمار، أن تقرأ لإبسن وهامبسون.. وهذا ما يمكننا الاقتداء به.
يرى وليد الكبيسي، أن هذا الربط، بين الأقانيم الثلاثة، اللغة، والدين والعروبة، قد أضاع منّا الأكراد كونهم غير عرب، وقد بدأوا بالغاء تعليم اللغة العربية في مدارسهم، منذ التسعينات.. وكذلك أبعد المسيحيين عن اللغة، بعد اسهاماتهم الكبيرة في حفظ اللغة، وبناء فكرة القومية العربية، عبر مفكرين كبار.. وهذا صحيح الى أبعد الحدود. فهذا الفضاء العربي، الذي نفخر بالانتماء اليه بشكل عام، هو في تفاصيله، صنيعة ونتيجة تعدد الأعراق والديانات والمذاهب، وهذا التعدد الذي أعطى هذه الأمة، تلك الصبغة الجميلة، التي بدأنا نفقدها…
فالأكراد قد أبدعوا في كافة مجالات الحياة الأدبية، والثقافية والوطنية… ويكفي أن نذكر بعض أسماء الأعلام الكردية، أمثال، أحمد شوقي, عباس محمود العقاد، محمد كرد علي، قاسم أمين، المؤرخ محمد أمين زكي، وأحمد تيمور وكل آل تيمور المبدعين نساء ورجالا… ومن قادتهم الوطنيين الشهيد يوسف العظمة، الذي قاوم الاستعمار الفرنسي، والمناضل ابراهيم هنانو….
لعب مسيحيو الشرق الأوسط، وبشكل خاص مسيحيو لبنان، دورا هاما في الحفاظ على اللغة العربية، ونشر الفكر القومي العربي، ومواجهة عملية ” تتريك” اللغة. ولا يمكن ابتسار عرض اسهاماتهم وذكر أسمائهم المعروفة والمضيئة في سماء ثقافتنا المشتركة…
ان عملية “أسلمة” اللغة والمجتمع، والمناهج التربوية، مرورا بلغة السينما، والمسلسلات، والبرامج التلفزيونية، والتي تتم بشكل سلس وطبيعي، كفيلة بخلق نوع من ” الحساسية” لغير المسلمين، وهذا ظلم تاريخي وانساني وأخلاقي..
يرى الكبيسي، عدم صوابية قرار تعريب المناهج التربوية والتعليمية في السودان منذ التسعينات. ولا يستطيع المرء الا ان يوافقه الرأي.. واني أرى في هذا التعريب قمة “المسخرة”، بالطبع المسخرة، من أصحاب القرار، الذي ربما يكون له أكثر من مثيل في الدول العربية.
والسبب، أننا لا نملك اسهامات في أي مجال علمي أو تكنولوجي أو حضاري، وبالتالي، فمن أين نأتي لتلك الاكتشافات بالأسماء والمصطلحات العربية. وهذا يحيلنا الى فكرة الكاتب، وهي تطوير اللغة، لتتلاءم مع لغة العصر، وما يقدمه من مستحدثات علمية متطورة، وايجاد لغة تتفاعل مع التطورات المتسارعة في كل المجالات، الطبية والعلمية والتكنولوجية.
من حقنا طرح السؤال التالي: بما اننا لا نملك اسماء عربية لكل هو ما حديث، ولكل المكتشفات، هل يحق لنا تعريب مناهجنا، أم تطوير لغتنا لتتماشى مع نمط الحياة العصرية؟ وهل نستطيع العيش وسط الحداثة، ولا نتكلم لغتها؟
يطلع علينا العديد من الدعاة، الذين يكرسون قداسة اللغة وربطها بالاسلام، ويدّعون، بأن الله يحاسب الناس في الآخرة ويخاطبهم باللغة العربية! ولا نعرف موقف رب العالمين من الذين هو مسؤول عن خلقهم غير مسلمين وغير عرب! وهل ستروج مهنة الترجمة حينئذ؟
وهذا ما يؤكد فكرة الكاتب بأن “رباط اللغة مع الدين يعرقل الاصلاح اللغوي ويفرق الأمة”. وهذه حقيقة أوافقه عليها.
لكني أرى ضرورة التمييز بين اللغة الفصحى التي نكتب بها، وبين لغة المنتديات الدينية، المنتشرة عبر الانترنت، والتي تعمد الى استعمال لغة دينية بمفردات وتعابير قديمة، لاضفاء مسحة دينية وروحية مقدسة.
ولا يشذ عنهم “سوبر ستارز” الفضائيات من الدعاة. حيث يستهلون كلامهم، بتلاوة بضع أسطر، للصلاة والسلام، وطلب الجنة والصفح والغفران والرضوان للنبي عليه السلام، وعلى آله وصحبه وأزواجه… فيقلب الداعية المواقع، فيضع من حيث لا يدري نفسه في مقام أرفع من مقام الرسول (ص)، لأن النبي هو من يطلب لنا الشفاعة عند الله وليس العكس.. فهذه اللغة الدينية، لا تعنينا، ولا نتخذها مثالا، للتدليل على عدم تطور اللغة..
الصعوبات اللغوية والنحوية
يشير الأستاذ وليد الكبيسي، الى صعوبة تعلم اللغة العربية للأجانب، مقارنة باللغة النرويجية ، كمثال. وهذا الرأي شائع الى حد كبير هنا في النرويج. برأيي، أن كل لغة جديدة يراد تعلمها هي لغة صعبة وتتطلب عملا دؤوبا، ووقتا للممارسة.
من تجربتي في تعليم اللغة العربية للنرويجيين، فاني أرى أن أولى الصعوبات تكمن في الكتب المستعملة في التدريس. فهذه الكتب قام بتأليفها مستشرقون أو ممن درسوا العربية وأتقنوها بشكل جيد، لكن هذه الإجادة لا تخولهم تأليف كتب مدرسية. اختيارهم للنصوص رغم تنوعها، فهي نصوص قديمة في غالبها، أو تعالج موضوعات جغرافية واقتصادية مملّة بالنسبة لمبتدئين بلغة جديدة. اذ أن طلابي وهم في مستوى جامعي يفضلون النصوص التي أقوم أنا بكتابتها.
المفكر النرويجي وليد الكبيسي، لا يعتبر قاعدة لأجنبي أتقن اللغة النرويجية. فهو أتقن اللغة مثل أهلها وربما أكثر، وحصد أعلى الجوائز النرويجية، بعد ان اختير كأكثر الكتاب النرويجيين تأثيرا في المشهد الثقافي النرويجي. وأبدع فيها، ونحت سبع كلمات دخلت القاموس النرويجي..
لذلك، لا يمكننا اعتباره قاعدة، أو مثالا لسهولة اللغة النرويجية…. نحن كأجانب نجد صعوبات كثيرة في تعلم اللغة النرويجية، مثل حروف الجر مثلا والتي يخطىء في استعمالها حتى بعض النرويجيين.
وهناك تعابير كثيرة يشكل علينا فهمها. فكان الاستاذ يقول لنا “فقط احفظوها هكذا”، أو “سوف تتقنونها بالتكرار والممارسة”. وهناك أحرف تُكتب ولا تلفظ، وأخرى تُلفظ ولا تكتب. وكذلك هو الحال في اللغة الانكليزية او الفرنسية.. أعني أن اللغة العربية ليست فريدة في هذا المضمار.
بالنسبة لموضوع النحو والقواعد، لا شك أن هناك صعوبات، وأن العديد من أصحاب الاختصاص يرتكبون أخطاء نحوية. لكن هذه الصعوبة أيضا ليست وقفا على اللغة العربية. ولا يمكن تخيل أي لغة بدون ضوابط قواعدية . ففي صحيفة “أفتن بوستن” زاوية يومية صغيرة ترصد الأخطاء الشائعة وتقوم بتصحيحها..
لكن قضية تبسيط موضوع النحو يبقى من شأن أصحاب الاختصاص من اللغويين، وهي قضية لا تخلو من صعوبات في العمل وتقبل عملية الاصلاح…
يطرح الكاتب سؤالا مهما وهو”هل من الممكن أن نفهم الكلام العربي من غير الاعراب والنحو؟” واجابته كانت بنعم. بدليل أننا لا نستعمل الاعراب في لهجتنا العامية، ومع ذلك نستطيع التفاهم… الجواب، جدا منطقي وحقيقي، ولكنه ينحصر في المتكلمين لذات اللهجة، وليس بين مختلف اللهجات، حتى ضمن البلد الواحد، حيث تختلف اللهجات بين شمال البلد وجنوبه ووسطه، فأي لهجة سوف تعتمدها الدولة!!
حاولت ذات مرة، قراءة رواية مغربية، كتبت تقريبا باللهجة المغربية، أو استعمال الكثير من المفردات المحلية. أجهدت نفسي في قراءة أربعين صفحة ولعدة مرات، ولم أفلح، فعزفت عنها…
سادت في الفترة الأخير، فكرة الكتابة باللهجات المحلية، أو ما تدعى باللغة المحكية. وهذا بالطبع ليس ما طرحه المفكر الكبيسي، بالعكس فمشروعه تفصيح العامّي ودمجه بالفصيح.
ولكن لو سلمنا جدلا، حل مشاكل وصعوبات اللغة باعتماد اللهجات العامية، فنحن قد نحل مشكلة، ونخلق مشكلة لا حل لها، وهي عدم فهمنا لمن يكتب بغير لهجتنا، ويتوجب علينا ترجمة الكتب من لهجة الى أخرى، كترجمة كتاب باللهجة اللبنانية الى اللهجة الجزائرية مثلا، علما أننا وبدون تلك الصعوبات، لا نصنّف ضمن الشعوب القارئة!!
ولو أردنا اعتماد هذا النوع من الكتابة، فبأي لهجة نكتب في فلسطين مثلا.. عندنا لهجة تنطق “القاف” “كافا” وبذلك يصبح “القلب” “كلبا”! وفي منطقة أخرى تتحول الكاف الى حرفين” تش”..
لكن الكاتب، ليس من أنصار هذا الاقتراح. فهو يرى دمج الفصحى مع العامية، واختيار المشترك من اللهجات العامية، مع استعمال التسكين في أواخر الكلمات، يقول “لا أريد الدعوة الى العامية، بل الى أن تكون العامية مكملة للفصحى، وليس بديلا لها. وهي دعوة كلّ من أراد اصلاح العربية قبلي.. وأنا اتمنى ان يكون للانسان دور فاعل في الكفاح ضد التلقائية والصدفة والعشوائية في تطور اللهجة العامية الى لغة في كل بلد. لأن العامية مستخدمة الآن وعلينا ان نسيطر على تطورها، لدمجها بالفصحى كي لا تضيع”.
تتضمن المحاضرة، العديد من الأفكار الخلاقة التي تستحق الدراسة وعدم اتخاذ المواقف العدائية العشوائية منها.. وليس بالضرورة أن نتطابق معه في كل الافكار، وان اختلفنا فليكن الحوار لغتنا، والنقاش أسلوبنا، وليس اطلاق التهم جزافا. فالكاتب لا يتهم اللغة بالقصور بقدر ما يحيل العيب الى انحسار اسهاماتنا في بناء حضارة اليوم.. ووليد الكبيسي لم يتخلّ عن التزامه بهموم قضايا أمته الوطنية، تحت يافطة الليبرالية أو العلمانية….
صدمة التغيير، في مراحل الانتقال والتغييرات، تصيب الكثيرين ، وأنا واحدة من هؤلاء الذين عشقوا اللغة كما هي، لكني أدرك ضرورة محاربة فوبيا التغيير، لأن اللغة كائن حي سوف يخضع لقانون التطور بارادتنا، أو رغما عنّا!
albakir8@hotmail.com
أوسلو
قضايا شائكة عابرة للقارات يطرحها وليد الكبيسي – ملاحظات سريعة على قراءة منقوصة للمقال اعلاه 1- في العام (2000) كان هنالك (1200) مدونة , كلها امريكية , في العام (2010) هنالك (141) مليون مدونة امريكية … في العام (1998) أسس كل من المرحوم (عقيل علي) , المرحوم (جان دمو) , المجنون (ناجي الحازب) وriskability :(الزقورة) … ترقبوا انطلاقة (الزقورة) العولمية نهاية العام (2012). 2 – عندما تضع كلمة (انكليزية) تنطوي على خطأ املائي , فاءن آلية البحث تعطيك نتائج أكثر عددا , مع ترويسة ترجمتها (هل تعني “الكلمة او الجملة:الصحيحة”) , وعندما تنقر على هذه الجملة تصل الى ما تريد… قراءة المزيد ..