قبل ايام، طالب المحامي محمد مطر وكيل اسر عدد من الشهداء الذين سقطوا مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري الرئيس الاول لمحكمة الاستئناف في بيروت القاضي جهاد الوادي بتنحية المحقق العدلي في هذه الجريمة القاضي الياس عيد على خلفية ما يشاع عن نيته اطلاق الضباط اللبنانيين الاربعة الموقوفين او بعضهم، واستنادا الى «المودة في العلاقة بينه وبين الوكلاء القانونيين للمدعي عليهم في هذه الجريمة».
لماذا اثيرت فجأة قضية عيد رغم «الهمس» الطويل الذي كان دائرا؟ ماذا ستؤول اليه الامور؟ كيف تسلم اساسا ملف التحقيق؟
«الراي» تنشر في ما يلي نبذة عن القاضي عيد استنادا الى مصادر قريبة منه وواكبت عمله عن قرب.
في 24 مارس 2005، اقدم وزير العدل آنذاك عدنان عضوم، على تعيين القاضي الياس عيد محققا عدليا في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.
طرح هذا التعيين علامات استفهام كثيرة، خصوصا انه جاء بعد قرار ذاتي بالتنحي اتخذه المحقق العدلي السابق ميشال ابو عراج. أدرك عضوم السبب وعزاه الى ما سمّاه «ضعف أبو عراج أمام العاصفة».
هذا يعني أن اختيار عيد جاء بعد تفكير معمق وبعد استشارات عدة مع المراجع التي يرتبط بها عضوم ارتباطا وجوديا ،اي رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات العربية السورية في لبنان آنذاك العميد رستم غزالة والمدير العام للأمن العام في تلك الآونة اللواء جميل السيد.
هذه الشخصيات الثلاثة المعنية، قانونا وأمرا واقعا، بتسمية عيد كانت بحاجة الى قاض ترتاح اليه. وفي العقل الأمني، فان مثل هذا القاضي معناه أنه قاض ممسوك بملفات، او يمكن تدبيرها له، من شأن الكشف عنها أن تؤثر سلبا على مسيرته الشخصية والمهنية. الحاجة الى قاض من هذا النوع، بالنسبة الى كل من عضوم وجميل السيد ورستم غزالة، يعود الى أسباب كثيرة ،أبرزها الآتي:
1- إدراكهم بالخلفية الحقيقة التي تقف وراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
2- حاجتهم الى من يعينهم على مواجهة الحملة الشرسة التي يتعرضون لها بفعل اتهام عام لهم بالاشتراك في تنفيذ الجريمة.
3-انتصار الشعب اللبناني المعادي للوصاية السورية على لبنان في تظاهرة 14 مارس 2005.
4- القرار السوري الذي اتخذه الرئيس بشار الأسد بالانسحاب الكامل من لبنان في مهلة تنتهي مع نهاية أبريل 2005، ما يفترض بهم تعيين قاض قادر على الاستمرار بتأدية الخدمات الحسنة.
5- حسن إدارة دفة الاخبار الذي سبق لجميل السيد ان قدمه بحق نفسه وبحق زملائه قادة الأجهزة الأمنية للتحقيق القضائي معهم في الاتهامات الموجهة اليهم بتهمة اغتيال الحريري.
6- صدور التقرير الصاعق للجنة تقصي الحقائق برئاسة مفوض الشرطة الاسكوتلندي بيتر فيتزجيرالد، حيث تمّ التشديد على عجز القضاء اللبناني من جهة وعلى ثبوت «دور مشبوه» للأجهزة لامنية اللبنانية في ارتكاب الجريمة أو في تسهيل القيام بها او في تضليل التحقيق من خلال أمور عدة أهمها «العبث المتعمد بمسرح الجريمة».
إذاً، كان الثلاثي المترابط عضوم – غزالة – السيد، بحاجة الى قاض مضمون… الثلاثة قالوها بلسان واحد: الياس عيد.
الياس عيد، رشحته جهات نافذة في وقت سابق لتولي منصب رئيس هيئة التفتيش المركزي، لكنها عادت وتراجعت عن ذلك لحاجة عضوم اليه في دائرة التحقيق.
اشتهر عيد بـ «علاقته الطيبة» برستم غزالة، لأن هذا الاستخباراتي السوري بالتعاون مع جميل السيد، ضبط عليه «ملفا معينا»، ومن شأن تفجيره بوجهه أن يخلق ازمة له مهنية وشخصية. وبهذا الملف ظهر الياس عيد ممسوكا جدا وبالتالي مضمونا جدا.
لكن الخطوات تسارعت بطريقة دراماتيكية جدا… طار عضوم من وزارة العدل ومن ثم من النيابة العامة التمييزية. خرج رستم غزالة من لبنان. ترك جميل السيد الأمن العام،
وجاء المحقق الدولي ديتليف ميليس، في ليلة غير منتظرة ليطلب من النائب العام التمييزي الجديد سعيد ميرزا أن يتم «جلب» القادة الأمنيين الأربعة في وقت واحد وتفتيش منازلهم .
عندما أحال ميليس الجنرالات الاربعة على النيابة العامة التمييزية لاستجوابهم وتوقيفهم إن اقتنع القضاء اللبناني المختص بذلك ،
بدا الفريق الأمني اللبناني – السوري مرتاحا الى الياس عيد. كان هذا الفريق على اقتناع ان عيد لن يقطع بحقهم مذكرات توقيف. الطمأنينة الكبرى كانت لدى جميل السيد.
لكن عيد خالف كل التوقعات، فالموجة كانت أكبر من قدرته على الوقوف في وجهها، كما انه بدا مطمئنا انهم لن يهددوه بملفاته – ولا سيما منه «ملفه المعين»، وانها اصبحت في خبر كان ،على اعتبار ان عضوم لا يخرج من منزله ، وغزالة عاد الى بلده وجميل السيد دخل الى السجن ولن يخرج منه بسبب ما وصفه القضاء اللبناني آنذاك «بتكامل الأدلة».التكامل ،ببساطة،هو الدافع الى التوقيف لا توصية ميليس ، بدليل ان ميليس طالب أيضا بتوقيف كل من المدير العام لرئاسة الجمهورية العميد سالم بو ضاهر والمدير العام في وزارة الأشغال العامة فادي النمار ،على خلفية الاشتباه بدورين لهما في العبث بمسرح الجريمة ، لكن القاضي ميرزا قبل القاضي عيد رفض ذلك رفضا قاطعا «لعدم اقتناعي بالمبررات المقدمة اليّ»، وفق ما قاله للمحقق الدولي يومها.
وانتظر جميل السيد أشهرا عدة، فبالنسبة اليه يستحيل التحرك طالما ميليس بهذه القوة. كان متيقنا أنه سيضعف، واتكل على حملة عرف ان النظام السوري يعمل عليها مع كثير من اللبنانيين أصدقائه. وضربت سورية ضربتها الاعلامية برفع شعار «فبركة الشهود» مستفيدة من استرداد الشاهد السوري هسام هسام . هذه الضربة الاعلامية – الدعائية تزامنت مع نوع من «التسامح العربي والدولي»،مما أعان بشار الأسد على ديتليف ميليس، فكسر كلمته بخصوص عدد الذين سيتم استجوابهم خارج سورية كما بخصوص أسمائهم كما بخصوص البلد الذي ستتم فيه العملية وشروطها.
وقرر ميليس مغادرة اللجنة . ابتهج جميل السيد الذي كان قد أوصل رسالة سابقة الى السلطات الألمانية يشكو فيها ميليس ، مذكرا إياها بأسرارهما المشتركة (أي السيد والمخابرات الألمانية ) في مفاوضات تبادل الأسرى بين «حزب الله»من جهة وبين اسرائيل من جهة أخرى.
كان السيد ، كما الكثيرون، يراهنون على ان التحقيق الدولي انتهى ، وليس هناك من سيقبل المهمة بعد ميليس، ولكن سرعان ما ظهر القاضي البلجيكي سيرج براميرتس الذي قبل المهمة.
وبدأت مراجعة عيد للإفراج عن السيد. تولى هذه المهمة بصورة يومية مالك جميل السيد من مدخل فك الحجوزات عن جزء من أموال العائلة لأسباب معيشية .
ولكن سرعان ما اكتشف مالك السيد ان عيد «هش» في التعامل معه. أبلغ والده الموقوف بالأمر وتقرر بدء الهجوم نحو الحرية.
للمرة الاولى، بعد هذا القرار، أطل احد المقربين من السيد على عيد «من فوق». طلب منه أن يتخذ قرارا بإخلاء سبيله، مهددا اياه بانه يعرف بقضية «الملفات المعنية» وهي موجودة بحوزته في «خزنة المصرف (…)».
احمر عيد. شعر بألم في صدره. وقال لقريب السيد: «لا أستطيع انا مقيد بتوصية لجنة التحقيق الدولية، فهات من اللجنة توصية معاكسة وخذ حضرة اللواء الى منزله .أنا في هذه المسألة مقيد ، فلا تزد حرجي حرجا».
وهنا بدأ دور المحامي أكرم العازوري في الالحاح على براميرتس بكتب تتصل بوضعية موكله. رد براميرتس بأن لا علاقة للجنة التحقيق بالاجراءات القضائية من مثل قرار التوقيف او اخلاء السبيل، بل هذه المهمة هي حصرية بيد المحقق العدلي.
تمّت مراجعة عيد. قال إنه لا يستطيع ان يتصرف من دون موافقة النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا.
قيل له ان ميرزا «مرتبط سياسيا» بآل الحريري، فطالب بالضغط على ميرزا.
وبدأ جميل السيد لعبته التي سبق له واحترفها، فقال ان براميرتس اجتمع مع ميرزا في تاريخ 8 ديسمبر 2006 وطلب منه، في هذه الجلسة الثنائية المغلقة، الافراج عن السيد، لكن ميرزا أجابه: «لا أستطيع، لأن عملا مماثلا له تأثيرات سياسية كبيرة لا يمكن للبنان أن يتحملها».
بالتوازي، بدأ عيد يلعب لعبة ضد ميرزا، فكان كلما استدعى شخصا على صلة بآل الحريري يشرح لهم عشقه للرئيس الشهيد وانه لم يكن يعرف حقيقته الساطعة كما بات يعرفها الآن. ومن ثم يحرص على لقاء من يعتبرهم المدخل الى قريطم (آل الحريري)، فيخبرهم ان القصر الجمهوري يرسل اليه عضو في المجلس الدستوري قريب من الرئيس اميل لحود، الذي يضغط عليه ويهول عليه من أجل الافراج عن ريمون عازار ومصطفى حمدان، كما ان السوريين يهددون بقتله وبقتل عائلته إن لم يفرج عن جميل السيد وعلي الحاج، وأنه لم يعد يثق بصلابة الرئيس ميرزا بل هو يخاف أن يضعف، محملا إياه مسؤولية اتخاذ القرار بالافراج عن فريق تلفزيون «نيو.تي.في» من دون موافقته، ورغم «وضوح جريمتهم»، وهو تاليا يفكر ان يضع قراره الاتهامي بغض النظر عن توافر المحكمة الدولية ويأخذ عائلته ويهاجر ليجنبها أي مكروه.
بقيت الأمور على هذه الحالة الى تلك اللحظة التي أُقرت فيها المحكمة الدولية تحت الفصل السابع سندا للقرار 1757 ، وسط معلومات مؤكدة ان براميرتز بات على قاب قوسين أو أدنى من معرفة كل تفاصيل الجريمة وأنه هو كان الضاغط الأكبر لمصلحة إخراج المحكمة من طريق المجلس النيابي المسدود، في ظل تحرك مجموعة من أهل الضحايا الى اتخاذ صفة الادعاء الشخصي لحماية حقوقهم ، في الفترة الفاصلة ، كتمهيد لنقل ملف غير منقوص الى عهدة المحكمة الدولية.
وجنّ جنون السيد ، اذ انه قبل نحو شهر واحد، من إقرار المحكمة الدولية أبلغ محاميه صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية انه لن يقدم أي طلب لتخلية سبيل موكله لأنه مقتنع ان لا مجال لتخلية سبيله في لبنان بل المسألة ستكون متروكة للمحكمة الدولية .
أعد السيد طلب إخلاء سبيل جديد. أرسله مع رسالة واضحة الى عيد :»تقرر إخلاء سبيلي الآن وإلا أعتقلك معي بفضل ملفك الذي لا يحتاج الى تحقيق».
نظر عيد الى أحواله. هو لن يكون مطروحا لأي منصب في المحكمة الدولية، أصلا مجلس القضاء الأعلى لم يرشحه الى منصب نائب المدعي العام لدى المحكمة الدولية.
وتذكر آخر التهديدات التي وصلت اليه: «انظر الى وليد عيدو جيدا، انظر الى القضاة الذين يمشون مع بيت الحريري ماذا يحصل لهم».
ثم أتى من أبلغه أن الملفات ضده باتت موثقة. وقد سلمها آصف شوكت إلى فصيل لبناني رئيسي حليف لسورية تولى نقلها بدوره إلى السيد!
دارت الأرض بالياس عيد. شعر الدنيا كلها عليه ، فهوى في أرضه ونقلوه في العشرين من يونيو 2007 الى المستشفى «بداعي الإعياء».
كل هذه الحقائق توافرت لفريق الادعاء الشخصي. أدرك ان ملف التحقيق يجري تسريبه خلافا للقانون. يمكن لمحامي الأفرقاء الاطلاع عليه ولكنهم لا يستطيعون أن ينسخوه، في حين ان كل الادلة تدل على ان وكلاء السيد يتمتعون بامتياز تصوير كل ورقة بما فيها المحضر التأسيسي الذي يتم تسليمه الى محطات تلفزيونية كما يتم وضع أسماء شهود بمتناول صحف إنما وجدت لتضليل التحقيق، وذلك بهدف شن هجوم وقائي عليهم.
كان لا بد لفريق الادعاء الشخصي ان يتحرك ، فدماء شهدائهم في خطر التهويل على قاضي التحقيق العدلي بملفات قديمة له كما انها تحت رحمة ضعف بدأ يبرز عليه من تهديدات يتلقاها، كما أنها في رحمة تجاوز حد السلطة بتسريب الملفات.
وهكذا كان لا بد من طلب رد القاضي عيد .اللغة التي استعملها المحامي اللبناني محمد فريد مطر تبدو مهذبة جدا بالقياس الى الحقائق التي بدأت تنتشر – وليس ما قاله المقربون من عيد في هذا التحقيق – سوى غيض من فيضها.
جدير ذكره ان القاضي سامي منصور الذي احال عليه الرئيس الاول لمحاكم الاستئناف في بيروت جهاد الوادي، طلب رد القاضي عيد، هو من سبق للامين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله ان رشحه ليتولى حقيبة وزارة الخارجية، عند البحث في تشكيل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة.
والسيد نصرالله – يقول المقربون من عيد – يجد في الياس عيد حاليا كل المزايا التي سبق ووجده فيها الثلاثي عضوم – غزالة- السيد، وتاليا هو يراهن على بقائه من أجل أن يفي بوعده للسيد ورفاقه بالافراج عنهم، حين وقف مدينا استمرار اعتقالهم.
الراي