إذا كان قراصنة البحر الصوماليون قد أعطوا بمغامراتهم المجنونة البحرية الهندية فرصة ذهبية للتواجد والتحرك واستعراض إمكانياتها القتالية واللوجستية في خليج عدن، وهو ما لم يحدث منذ رحيل البريطانيين من شبه القارة الهندية في عام 1947 أولا، ثم رحيلهم مما كان يسمى باليمن الجنوبي في عام 1976 لاحقا، بل الأمر الذي حدا بمقدم أحد البرامج الحوارية في التلفزيون الرسمي الهندي إلى مخاطبة ضيفه (رئيس هيئة الأركان البحرية الأدميرال سوريش ميهتا) بالقول: ” لقد رفعتم بتدخلكم ضد قراصنة خليج عدن رأس الهند عاليا ” – علما بأن وسائل الإعلام الهندية ظلت تبخل على بحريتها بكلمات الإطراء والمديح منذ البلاء الحسن للأخيرة في حرب البنغال في عام 1971 – فان الأمر الآخر الذي تسبب فيه هؤلاء القراصنة من حيث لم يخططوا له هو توحد القوى الآسيوية ضدهم.
الاستغناء عن قناة السويس
فعلى الرغم من وجود مشاكل وعلاقات بينية متوترة بين بعض هذه القوى، فإنها رأت أن مصالحها العليا تحتم عليها التعاون والتنسيق والتوجه معا نحو مكافحة هذا الوباء الطاريء، خصوصا بعد حادثة اختطاف القراصنة لناقلة النفط السعودية العملاقة “سيريوس ستار” التي كانت تنقل على متنها ربع الإنتاج اليومي من النفط السعودي أو ما يساوي مليوني برميل، ومطالبتهم بعدة ملايين من الدولارات كفدية مقابل الإفراج عن الناقلة وعن طاقمها، بل خصوصا بعد قيام شركات الشحن والنقل العملاقة بالتهديد علنا بأنها قد تدرس الاستغناء عن المرور في قناة السويس و البحر الأحمر وخليج عدن لصالح الدوران حول رأس الرجاء الصالح كما كان الحال في الماضي البعيد، وقيام شركات التأمين العالمية من جانبها برفع مبالغ التأمين على السفن العابرة لمياه البحر الأحمر وخليج عدن بنحو عشرة أضعاف.
تعاون هندي – روسي
فمثلا في الوقت التي كانت فيه دول منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) تعمل من اجل الحصول على تفويض من مجلس الأمن الدولي يخول قواتها البحرية حق التواجد في سواحل عدن والقرن الإفريقي من اجل مكافحة وملاحقة القراصنة الصوماليين الذين ثبت بالدليل أنهم مدربون ويحسنون تنفيذ مهامهم ويمتلكون اعتدة متطورة، كانت دولا مثل الهند وروسيا الاتحادية تعلن صراحة أنها ستتعاون معا ضد أعمال القرصنة البحرية في القرن الإفريقي دونما انتظار أي تفويض دولي، وذلك من منطلق الدفاع عن النفس (أو الدفاع عن المصالح الاستراتيجية)، بل أن الهند ادعت أن تدخلها يأتي بناء على طلب تلقته من الحكومة الصومالية، رغم علم الجميع بعدم وجود حكومة في الصومال تحظى بالإجماع والشرعية.
الصومال بدلا من افغانستان
والحقيقة أن مسارعة الهند وروسيا ودول الناتو و العديد من الدول الآسيوية – كما سنرى لاحقا – إلى تكثيف عملياتها الهادفة إلى قطع دابر قراصنة البحر الصوماليين إنما ينبع مما تشكله أعمال هؤلاء من مخاطر على سلامة خطوط الملاحة والتجارة والنقل الممتدة ما بين مضيق ملقا والخليج العربي. وهي خطوط تعتبر ذات أهمية قصوى لإمداد منطقة الشرق الأقصى بالنفط والطاقة من الخليج، ولإمداد أوروبا بمختلف البضائع والسلع المصنعة في آسيا. ويمكن القول أن المخاطر المذكورة قد زادت الآن في ضؤ تقارير كثيرة بدأت تظهر منذ بعض الوقت حول مخطط تقوده منظمات إرهابية أو متطرفة كالقاعدة وطالبان وغيرهما لنقل عملياتها من الكهوف إلى البحار والمحيطات، أو بعبارة أخرى استهداف ما لم تستطع استهدافه على الأرض انطلاقا من أفغانستان باستهدافه في عرض البحر انطلاقا من الصومال.
يمنيون في الصومال
وعلى الرغم من أن البعض لا يهضم هذه الفكرة ويعتبرها مبالغ فيها، فان سقوط بقايا هياكل الدولة الصومالية في أيدي اتحاد المحاكم الإسلامية الذي لا يختلف في مفاهيمه ورؤاه وأيديولوجيته عن حركة طالبان الأفغانية المدحورة، ثم نمو هذا التنظيم وقدرته على تشطير الوطن وفق أسس قبلية وفئوية على النمط الأفغاني، فضلا عن اتخاذ الكثيرين من أبناء اليمن المتطرفين للصومال كمكان للتحرك بحسب ما أشارت إليه عمليات مطاردة القراصنة والتحقيق معهم، يعزز الفكرة السابقة.
مسودة قانون امام البرلمان الياباني
بعيدا عن الهند وروسيا اللتين اشرنا إلى تصميمها على التعاون من اجل مكافحة أعمال ومظاهر القرصنة البحرية وتأمين سلامة خطوط الملاحة البحرية، فان اليابان ظهرت أيضا معنية بالأمر كثيرا، بل أسفت لأن المجتمع الدولي لم يتحرك في الوقت المناسب ضد هؤلاء الخارجين على القانون. ولعل أفضل دليل على صحة ما نقول هو تقدم الحكومة اليابانية بمسودة قرار إلى البرلمان حول منحها صلاحيات استثنائية لإرسال قوات وسفن حربية إلى سواحل شرق أفريقيا لحماية سفن اليابان التجارية وناقلاتها من الاعتداء. أما الدليل الآخر فنستمده مما قاله البروفسور ريتشارد تانتير وهو أستاذ مساعد في المعهد البحري للأمن و الاستقرار في طوكيو وهو : أن اليابان تمتلك اليوم فرصة غير مسبوقة وقد لا تتكرر ليس فقط لنيل شرف التصدي للقراصنة أو قيادة دول العالم في هذا الشأن، وإنما للذهاب ابعد من ذلك عبر تبني سياسة خارجية جديدة تقوم على دفاع طوكيو عن مصالحها الاستراتيجية بنفسها أينما كانت تلك المصالح. والمعلوم أن طوكيو، وعلى ضؤ تسارع الأحداث والوقائع في خليج عدن، سارعت قبل نحو شهر إلى إنشاء وحدة ضمن وزارة خارجيتها معنية تحديدا بالأمن البحري، الأمر الذي وصفه الكثيرون بالتحرك الجاد الذي يحمل مؤشرات عديدة وليس مجرد خطوة بيروقراطية.
التفكير في كيفية مكافحة القرصنة
وهكذا فانه يمكن القول أن قراصنة الصومال عجلوا في حدوث أمر ظل يشغل بال الحكومات اليابانية المتتابعة ومعها رجالات صناعة النقل وبناء السفن منذ أكثر من عقد من الزمن، ألا وهو كيفية مكافحة القرصنة البحرية، ولاسيما في مضيق ملقا و مياه شرق المحيط الهندي التي شهدت حوادث اختطاف أو احتجاز لناقلات ترفع العلم الياباني أو محملة بنفط وبتروكيماويات لصالح شركات يابانية.
خيارات محدودة امام البرلمان الياباني
صحيح أن طلب الحكومة اليابانية من البرلمان لم يبت فيه حتى الآن، إلا أن مسارعة دول كثيرة وبعضها خصم لليابان مثل الصين أو منافسة لها على صعيد التصنيع والتصدير والاستحواذ على الطاقة مثل كوريا الجنوبية ودول الاتحاد الأوروبي قد لا يترك خيارا للبرلمان سوى الموافقة، أو في أفضل الأحوال اقتراح أن تواكب سفن البحرية اليابانية الناقلات في ذهابها وإيابها من اجل حمايتها ودرء المخاطر عنها.
الوقت ليس في صالح اليابانيين
ومجمل القول في هذا السياق أن الوقت يمر بسرعة وهو ليس في صالح اليابانيين – مثلما قال أحد ساسة الحزب الحاكم – والذي أضاف أيضا: ” أننا نضيع وقتنا في الجدل حول استصدار قانون أو تفويض برلماني فيما أكثر من 2000 سفينة يابانية من تلك التي تتردد سنويا على منطقة القرن الإفريقي أو تمر بالقرب من السواحل الصومالية معرضة لمخاطر جسيمة. وربما كان هذا هو ما دفع اليابان في الشهر الماضي إلى القيام بمبادرة مشتركة مع الولايات المتحدة وبريطانيا لاستصدار تفويض دولي يتيح للدول الثلاث وغيرها باستخدام القوة ضد قراصنة الصومال.
سجال برلماني طويل في كوريا الجنوبية
وعلى الرغم من أن كوريا الجنوبية لا يكبلها دستور يحظر على قواتها المشاركة في عمليات عسكرية فيما وراء البحار، أي عكس اليابان، فان قرار إرسال مدمراتها الحربية إلى مناطق بعيدة خضع لسجال برلماني طويل، خصوصا وأن الحدث جاء مباشرة بعد الفرح الذي عم البلاد بعودة أكثر من أربع آلاف جندي كوري جنوبي من دورهم المشرف في شمال العراق كجزء من قوة التحالف بقيادة الولايات المتحدة. وهنا أيضا فان عوامل مثل تنافس القوى الآسيوية بين بعضها البعض، و الحرص على سلامة حركة الملاحة والتجارة منها إلى أوروبا وبالعكس، وسقوط ناقلات تابعة لبلدان أخرى بسهولة في أيدي القراصنة، بل وأيضا تسجيل حالات عدة في العامين الماضيين وقعت فيها سفن صيد كورية جنوبية ضحية لاعتداءات القراصنة الصوماليين، لعبت كلها دورا في مسارعة سيئول إلى اتخاذ قرار يقضي بإرسال مدمراتها البحرية الخمس المزودة بالصواريخ والناقلة للمروحيات بطريقة دورية إلى مناطق القرصنة قبالة الساحل الصومالي، لكن مع تعليمات مشددة بعدم الالتحام مع القراصنة إلا عند الضرورة القصوى. وطبقا للمصادر الكورية الجنوبية، فان واشنطون وطوكيو ستتوليان التنسيق معها حول تزويد المدمرات الكورية الجنوبية بالطاقة والطعام والاحتياجات الفنية.
الصين غير مستثناة
وما قلناه في الأسطر السالفة ينطبق إلى حد ما على الصين. فالأخيرة التي تزايد اهتمامها في السنوات الأخيرة بأفريقيا ووجدت في القارة السوداء ما يستحق الصراع من اجل الاستحواذ، وجدت نفسها فجأة أنها مثل غيرها من الدول غير مستثناة من إجرام القراصنة وعنفهم، رغم كل ما قدمته ذات يوم من أسلحة وعتاد إلى حركات راديكالية في زيمبابوي وظفار وشرق الكونغو أو إلى حكومات ماركسية في إثيوبيا و تنزانيا و أريتيريا.
فإذا ما اتخذنا كل هذا في الحسبان، مضافا إليه التنافس التقليدي ما بين الهند والصين والعداء التاريخي ما بين الصين واليابان والتنافس الجديد ما بين الصين و أوروبا، لوجدنا أن خطوة بكين في الأسبوع الماضي بتحريك سفنها الحربية نحو مياه المحيط الهندي وخليج عدن لها ما يبررها.
الدولة الرائدة في تصدير العاملين على ظهور الناقلات
وأخيرا نأتي إلى الفلبين التي ربما لا تقارن بغيرها من الدول لجهة عدد مواطنيها الذين قضوا في حوادث القرصنة الأخيرة. فباعتبارها احد الدول الرائدة في العالم في تصدير العمالة الفنية المدربة على الإبحار فوق ناقلات النفط العملاقة ولا سيما المتجهة إلى أو القادمة من منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، فان أكثر من 110 من رعاياها اختطفوا أو احتجزوا منذ شهر يوليو المنصرم. وحتى الآن لم يفرج سوى عن 61 بحارا إضافة إلى جثة قتل صاحبها بعد مشادة مع القراصنة.
ولأن الفلبين تمد عالم الشحن والنقل بنحو ثلث إجمالي العاملين في هذا القطاع كبحارين أو كفنيين، ثم لأن ما يضخه هؤلاء سنويا في الاقتصاد الوطني من العملة الصعبة يتجاوز 2.2 بليون دولار من اصل 14 بليون دولار (أو عشرة بالمئة من إجمالي الناتج المحلي) يضخه فلبينيو المهجر ككل. فان مانيلا بدت قلقة ربما أكثر من غيرها من تطورات الأحداث في القرن الإفريقي، خصوصا في ظل حالة الكساد العالمي الذي تأثرت به الفلبين كغيرها من جاراتها في صورة ازدياد أعداد العاطلين.
ومن القرارات التي لجأت إليها إدارة الرئيسة الفلبينية غلوريا أرويو ماكاباغال لحماية رعاياها العاملين على ظهر الناقلات العابرة في مناطق القرصنة: مطالبة مالكي السفن الاجنبية المستخدمة للعمالة الفلبينية بأن يسمحوا لهؤلاء بمغادرة السفينة الناقلة في محطات ما قبل الوجهة النهائية، إذا ما استشعروا بمخاطر تنتظرهم في محطة الوجهة النهائية.
وقد هاجم الكثيرون من ملاك السفن وأرباب الشحن هذا القرار، بل ووصفوه بالقرار الاعتباطي الذي لا يحقق أي شيء، مضيفين أنه كان من الأجدى لو أن حكومة السيدة ماكاباغال طالبت واشنطون بتوفير سفن عسكرية لحماية الناقلات التي يعمل عليها بحارة فليبينيون.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي فس الشئون الآسيوية من البحرين