العنوان أعلاه هو قولة شعبية تُطلق على صنف من البشر الذين تراهم بعد مرور زمن وتبدّل الأحوال من حولهم يتحوّلون إلى إطلاق شعارات هي في جوهرها نقيض لما دأبوا على إطلاقه في ما مضى من عمرهم. ومناسبة هذا الكلام الآن هي ما أشيع من أخبار عن أنّ وزارة الخارجية الفلسطينية «تطالب المجتمع الدولي باحترام قرار التقسيم».
هكذا، إذن. بعد مرور عقود طويلة على التحوّلات التاريخية الكبرى التي حصلت في هذه البقعة من الأرض تطالب الآن هذه الخارجية الفلسطينية احترام قرار التقسيم. فماذا عدا مما بدا الآن؟
لو أننا عدنا قليلاً إلى الوراء وإلى أجواء ردود الفعل العامة، عربيّاً وفلسطينيّاً، في ذاك الأوان الذي صدر فيه قرار التقسيم، فماذا نجد؟
لقد كان ثمّة إجماع عربيّ وفلسطينيّ وبين كافّة التيّارات السياسية من اليمين واليسار على رفض التقسيم، هذا القرار الذي تطالب الآن قيادات فلسطينية باحترامه. فها هو نائب رئيس الهيئة العربية العليا في ذلك الأوان، جمال الحسيني، يُصرّح في حديث صحافي: «سنقاوم التقسيم بكلّ ما أوتينا من قوة، وإذا أراد الله وزِِِلنا من الوجود أثناء مقاومتنا هذه قبل أن نصل إلى هدفنا المنشود، فسيتولّى عرب الأقطار الشقيقة هذه المقاومة بعدنا» (جريدة «الوحدة»، 30 كانون الأول- ديسمبر 1946).
وحين بدأ يظهر الفشل العربي على الملأ العالمي وبخاصّة بعد تبدّل موقف الاتحاد السوفياتي من التقسيم، كما تبيّن من خطاب غروميكو في الجمعية العمومية، وهو الخطاب الذي شكّل مفاجأة للجميع، فإنّ موقف الجامعة العربية بقي على ما هو عليه من رفض قرار التقسيم. فها هو عبد الرحمن عزام باشا، الأمين العام لجامعة الدول العربية في ذلك الوقت يُصرّح على الملأ في نيويورك: «إن الاقتراح الروسي الذي أبداه المسيو غروميكو في الجمعية العمومية لهيئة الأمم في شأن إنشاء دولتين للعرب واليهود، أو دولة ثنائية في فلسطين اقتراح لا يقبله العرب». ثم قال: «إنّ الحل العملي الوحيد هو أن تنشأ دولة يسيطر عليها العرب ويكون اليهود فيها أقلية». (جريدة «فلسطين»، 16 أيار- مايو 1947).
حتّى خطاب غروميكو في الجمعية العمومية كان موقف الشيوعيين الفلسطينيين رافضاً بحزم قرار التقسيم. هذا ما تؤكّده عصبة التحرّر الوطني في خطابها: «تعود عصبة التحرر الوطني وتؤكّد من جديد رفضها الباتّ لمشروع التقسيم». ليس هذا فحسب، بل تؤكّد هذه العصبة أنّها «تؤيد جميع الخطوات التي تتخذها الجامعة العربية والهيئة العربية العليا وجميع القوى الوطنية في العالم العربي في سبيل مقاومة التقسيم ومن أجل جلاء الجيوش البريطانية وفي سبيل تحرير فلسطين من الاستعمار والصهيونية». (جريدة «فلسطين»، 17 تشرين الأول- أكتوبر 1947).
غير أنّ هؤلاء الشيوعيين غيّروا موقفهم لاحقاً تمشّياً مع موقف الاتحاد السوفياتي وأصبحوا من أشدّ دعاة التقسيم. بل، وأبعد من ذلك، عادوا وتوحّدوا مع الشيوعيين اليهود في حزب واحد دخل الكنيست، كما احتفلوا باستقلال إسرائيل، ليس في إسرائيل فقط بل في خارج البلاد أيضاً.
إنّ أكثر ما يشدّ انتباه المرء المتابع لما يـجــري في هذه الحلبة من الصراع اليهودي-العربي، الإسرائيلي- الفلسطيني، وخلال كلّ هذه العقود الطويلة، هو هذه البلبلة أو هذا الارتباك العربي، والفلسطيني بخاصّة، في مواجهة المستجدّات على الساحة. فبعد سبعة عقود من رفض قرار التقسيم والنكبة التي حلّت بالفلسطينيين، ها هي القيادات الفلسطينية في هذا الأوان تستجدي المجتمع الدولي «احترام قرار التقسيم ذاته».
لو كان الأمر مضحكاً لضحكنا. غير أنّ في الأمر ما هو أكبر من ذلك، فهو دليل صارخ على الوضع الفلسطيني المأزوم، منذ بداية الصراع، بقيادات فلسطينية ومن جميع التيارات السياسية التي لا تعي حقيقة هذا العالم العربي من حولها، كما لا تعرف التعامل مع العالم بأسره. وكلّ هذا ناهيك عن التعامل مع الطرف الإسرائيلي في هذا الصراع المزمن.
حريّ بالذي يُطالب باحترام قرار التقسيم أن يحترم التاريخ وأن يجري حساباً مع النّفس بغية الوصول إلى مسبّبات كلّ هذا الفشل الفلسطيني الذي يخيّم فوق رؤوس الجميع، قيادات وشعباً طوال عقود. إنّ الاستمرار في بيع الشعارات والتباكي على الماضي والوقوف على الأطلال لن يجدي هذا الشعب نفعاً.
وعلى هذه الخلفية، فإنّ الفلسطينيّين هم بحاجة ماسّة إلى اختيار قيادات من نوع جديد تعرف التعامل مع هذا العالم المستجدّ من حولهم. لهذه الغاية هم مدعوّون إلى نبذ كلّ القيادات القديمة، فتحاوية وحمساوية، وإحالتها إلى التقاعد. فعلى كلّ هذه القيادات، من دون استثناء، تقع مسؤولية الفشل الفلسطيني. من دون استبدال هذه القيادات لن يصل الفلسطينيون إلى سواء السبيل.
* كاتب فلسطيني