هناك شيء عفن في بلاد الدانمارك
شكسبير، “هاملت”
*
الأزمات الاقتصادية والتدهور النقدي الذي يصاحبها في الاقتصادات الناشئة تعود، في غالبيتها، إلى كون البلد يعيش بأكثر من طاقته. ولبنان يعيش منذ سنوات بأكثر من طاقته. فالحكومة والمؤسسات العامة في حالة عجز وخسائر مستمرة، والدين العام يرتفع باطراد، في حين أن المسؤولين يتابعون توزيع الوظائف في القطاع العام، وتثبيت المياومين والمتطوعين وزيادة الرواتب والأجور والتعويضات، وكأن لا شأن لهم بوضع المالية عامة. القطاع الخاص يستفيد استهلاكاً من ليرة مرتبطة بالدولار في أجواء تدنٍ للإنتاجية الاقتصادية، وضعف في النمو، وظاهرة مقلقة حقاً هي العجز في ميزان المدفوعات لأربع سنوات متوالية منذ عام 2011، وهي سابقة لم يعرفها لبنان منذ الاستقلال وحتى خلال سنوات الحرب، إذ كان العجز دوماً لسنتين متواليتين على الأكثر.
إن الواقع الاقتصادي يعكس موضوعياً سياسة السياسيين في لبنان، وهو أكثر بلاغة من خطاباتهم وشعاراتهم. والخطر الكبير على لبنان قد لا يأتي من مشاكله السياسية أو الأمنية إنما من وضع مالي ونقدي يتفاقم منذ سنوات بدون أي اهتمام من المسؤولين. لنتمعّن أدناه في نتائج قرارات السياسيين في لبنان، وفي المخاطر التي تهدد الوضع المالي والنقدي، واستطراداً الوضع السياسي والاجتماعي عامة.
الدَّين العام والدَّين الحكومي
بداية، من الضروري توضيح منهجية أساسية في المالية العامة. “الدين العام” الذي يُشار دوماً إليه في الإعلام وفي المنشورات الرسمية ليس فعلياً الدين العام بل الدين الحكومي الذي هو النتيجة التراكمية لعمليات الحكومة من خلال الموازنات العامة. أما الدين العام، وحسب المنهجية المعتمدة دولياً، فيساوي الدين الحكومي بالإضافة إلى دين المؤسسات العامة المالية وغير المالية. وبما أن دين المؤسسات العامة غير المالية، حسب المعلومات المتوافرة، هو ضئيل نسبياً، يصبح الدين العام يساوي الدين الحكومي – أي الرقم المتداول عادة – يُضاف إليه دين مصرف لبنان، وهو مؤسسة مالية عامة.
للتبسيط، نحتسب دين مصرف لبنان مساوياً فقط لشهادات الإيداع التي يصدرها بالليرة، إضافة إلى التزاماته بالعملات الأجنبية لديه وجلّها ودائع من المصارف اللبنانية. وللأسف، لا ينشر مصرف لبنان، كما يجب، أية أرقام عن قيمة هذه الودائع أو عن أية شهادات إيداع يصدرها بالعملات الأجنبية، إلا أنه يمكن تقديرها استناداً إلى أرقام أخرى منشورة. نقدّر دين مصرف لبنان بحوالى 51 مليار دولار في آخر عام 2014، منها ما يوازي 20 مليار دولار تقريباً كشهادات إيداع أصدرها بالليرة.
وهنا نصل إلى الدين العام، وهو ليس مجرد حصيلة إضافة دين مصرف لبنان إلى الدين الحكومي، إنما هو مبلغ أدنى، وذلك بعد إجراء المقاصة بين الدَّينين، أي بعد حذف ديون الحكومة ومصرف لبنان بعضهما تجاه البعض. وقيمة الدين العام التي احتسبنا في آخر عام 2014 تبلغ 102 مليار دولار تقريباً، ما يوازي 205% من الناتج المحلي القائم، مقارنة بحوالى 67 مليار دولار للدين الحكومي المعلن والذي يوازي 134% من الناتج. (في هذا السياق، كتب مؤخراً معلّق اقتصادي أن مجلة “الإيكونومست” الشهيرة ارتكبت خطأً بالغاً في مقالة لها عن لبنان إذ أشارت إلى أن الدين العام يوازي 211% من الدخل القومي القائم في حين أن هذه النسبة هي أدنى بكثير، مضيفاً أن المجلة ربما خلطت بين لبنان واليابان. والحقيقة أن المعلّق خلط كسواه بين الدين العام والدين الحكومي، ويبدو من الرقم المنشور في “الإيكونومست” أنها اعتمدت المنهجية الصحيحة، كما هو متوقع)
أين ذهبت أموال الدَّين الحكومي؟
خلافاً للاعتقاد السائد، إن الفساد المستشري ليس صفة ملازمة للدولة اللبنانية بل ظاهرة حديثة. فالدين الحكومي كان صفراً عند اندلاع الحرب في عام 1975، وما يعادل 3 مليارت دولار في آخر عام 1992، حين كانت غالبية الدين بالليرة. ومن ثم أعطتنا السلطات السياسية أهم “إنجاز” مالي للبنان إذ، حسب إحصاءات البنك الدولي، نقلت لبنان من مجموعة الدول الأقل مديونية في العالم آنذاك إلى مجموعة الدول الأكثر مديونية حالياً، وهذا بدون أن يصاحب هذا الانتقال أي نشاط إعماري! وبالفعل، فلننظر إلى الجدول المرفق، مسارعاً إلى القول أن لا نية لي إطلاقاً بحصر الاتهام في أي من فريقي 8 أو 14 آذار، بل في كل الطبقة السياسية التي اشتركت في إدارة الشأن العام في لبنان منذ أوائل تسعينات القرن الماضي.
نفقات الموازنة العامة 1993-2014
نسبة مئوية مليار دولار
34% 61 فوائد على الدين الحكومي
32% 57 رواتب وأجور وملحقات
9% 16 نفقات استثمارية
9% 17 تحويلات إلى كهرباء لبنان
12% 21 تحويلات أخرى
4% 8 نفقات متفرقة
100% 180 مجموع النفقات
المصدر: منشورات وزارة المال؛ أرقام مدوّرة.
يكفي التمعّن في أرقام الجدول لرؤية التجلّيات المالية والاقتصادية للسلطة السياسية في لبنان منذ انتهاء الحرب. ومن أهم هذه التجلّيات:
– الفكر الاقتصادي ليس معروفاً بكثرة قواعده، إلا أن له “قاعدة ذهبية” تقول بإن الاستدانة يجب أن تكون للنفقات الاستثمارية وليس للنفقات الجارية، وهذا لم يحصل بالتأكيد خلال الـ 22 عاماً الماضية إذ إن %9 فقط من النفقات (والنفقات الفعلية أدنى إذا أخذنا الهدر في الاعتبار) قد خُصّص لمجمل البنية التحتية التي تشكو حتى الآن من نقص كبير في كل المجالات. لذلك، إن ترداد القول، الرسمي وغير الرسمي، بأن المصدر الرئيس للدين هو إعادة الإعمار هو غير صحيح ويجب عدم تكراره.
– إن ضخامة التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان، التي تعدّت مجمل النفقات الاستثمارية، تخفي واقعاً غير طبيعي. فهذه التحويلات الضخمة، بأكثر من ملياري دولار سنوياً، خلال السنوات الأربع الأخيرة، تمثّل أكثر من نصف عجز الموازنة السنوي. والمفارقة الكبرى أن هذه المبالغ الضخمة لا تزال تُعطى بدون أي سؤال أو مساءلة، فلا حسابات مدقّقة لمؤسسة كهرباء لبنان، فآخرها كان لعام 2007، وهذا يشير صراحة إلى وضع مالي شاذ وحسابات يشوبها الغموض. والأنكى أن هذا التخلّف الكهربائي المكلِف مستمر وسط صمت رسمي شامل من كل الفرقاء السياسيين، ما يعني أن المسؤولين موافقون على هذا الوضع المشبوه منذ سنوات عديدة.
– توزيع المنافع على الفرقاء السياسيين يكمن أيضاً وراء الأرقام الكبيرة للرواتب والأجور، وللتحويلات الأخرى التي يذهب أكثر من نصفها إلى مؤسسات خاصة. ويجب التذكير هنا بأن آثار توسّع التوظيف وتوزيع المنافع في المؤسسات العامة لا تظهر دوماً أو مباشرة في الموازنة، مثلاً في حالات التوظيف ووهب التعويضات في كازينو لبنان. ومن آثار هذه السياسات تخفيض تحويلات المؤسسة العامة الرابحة إلى الخزينة أو زيادة في تحويلات الخزينة إلى المؤسسة الخاسرة. والمسؤولون هم دوماً غير مكترثين للوضع المالي العام، كما حين تلقّى وزير التربية مؤخراً قائمة من أقل من 800 اسم مرشّح للتفرّغ في الجامعة اللبنانية لينتهي الأمر بإصدار مجلس الوزراء قائمة من أكثر من 1200 اسم!
إصلاح السياسة النقدية ضرورة أوّلية
إن المخاطر الاقتصادية لا تأتي فقط من وضع المالية العامة بل أيضاً، وربما بدرجة أقوى، من آثار السياسة النقدية لمصرف لبنان والتي لا تقتصر على حصّته الكبيرة من الدين العام. فمنذ التسعينات من القرن الماضي ومصرف لبنان يتّبع سياسة فوائد سخية يدفعها لاقتراضه من المصارف بالليرة وبالدولار عموماً، علماً بأن مصرف لبنان لا ينشر إحصاءات أو معلومات عن غالبية هذه العمليات، التي لا تجري في سوق منظّمة كما يجب أن تكون الحال، بالأخص بالنسبة لمصرف مركزي. والنتيجة هي أن 58% من الميزانية المجمّعة للمصارف تذهب تسليفات للدولة (بشكل ودائع وقروض لمصرف لبنان، ومن ثم سندات خزينة)، في حين أن حصة القطاع الخاص تبلغ 26% منها فقط، والتسليف للقطاع الخاص هو علّة وجود المصارف التجارية. هذا وضع غير صحي للمصارف وللاقتصاد، بكل المعايير.
ولا تزال هذه السياسة النقدية تؤدي إلى خسائر كبيرة لمصرف لبنان، والأهم أنها تنمّي تبعية المصارف أو اتكالها على الدولة، وخصوصاً على مصرف لبنان، لجهة ربحيتها، وذلك خلافاً لنمط عمل المصارف التجارية. لقد أصبح وضع المصارف مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بوضع الدولة المالي، ما يجعل المصارف عرضة لتقلّبات مالية الدولة ومخاطرها بشكل قوي ومباشر. والمصارف في لبنان هي قطاع ثمين يجب المحافظة على سلامة وضعيته. وعلى غرار السياسة المالية، فما من مساءلة للسياسة النقدية أيضاً. والحقيقة أن تصرف المسؤولين هذا منطقي، لأنهم بالتأكيد لن يتحمّلوا عواقب أي انهيار اقتصادي، في حين أن المالية العامة بنفقاتها توفّر لهم منافع كبيرة وكثيرة.
لبنان يعيش منذ سنوات بأكثر من طاقته، ونحن نقترب بثبات من منطقة الخطر. أمام السلطة اللبنانية خياران فقط: تطبيق سقف سنوي محدّد للعجز بحيث تكون نسبته للناتج انحدارية لعدة سنوات، مع سياسة نقدية شفّافة تهدف إلى خفض ديون المصارف للدولة، أو الاستمرار بدفن الرؤوس في الرمال في انتظار العاصفة.
gaspall5@cyberia.net.lb
*
كاتب وخبير اقتصادي