من دون سابق إعداد، أعلن الاثنين الماضي عن تشكيل «مجلس وطني انتقالي» موقت، ضم ناشطين ومثقفين سوريين معارضين، في داخل البلاد وخارجها. وتبين على الفور أن كثيرين بين الـ94 عضواً في المجلس العتيد لا علم لهم بالأمر ولم يؤخذ رأيهم به. وفوق ذلك لم يتضح من هي الجهة التي شكلت المجلس وأعلنته على هذا النحو، ولماذا لم تعرّف نفسها بوضوح.
الشيء اللافت أن الكثير من المتعاطفين مع الانتفاضة ومسانديها رحبوا بهذه المبادرة، من دون أن يتأثر ترحيبهم بطريقة تشكيله وبغموض هوية الجهة التي شكلته.
وراء هذا الترحيب شعور منتشر بالحاجة إلى عنوان سياسي للانتفاضة، يمثلها ويعبر عنها ويقصدها من يريدون مخاطبتها، وربما يفاوض باسمها حين يقتضي الأمر. وقد كان هذا تطلباً مبكراً طرحه على أنفسهم معارضون في الداخل والخارج… وعقدت من أجله مؤتمرات في الداخل والخارج أيضاً، وتشكلت هيئات وتجمعات ومجالس، لكن ليس فقط من دون أن تملأ الفراغ السياسي المعارض، أو تشكل العنوان المأمول، بل هي فاقمت الشعور بالفراغ وفقدان العنوان والمرجعية الموثوقة.
وبينما تبدو المعارضة الداخلية ثقيلة الحركة، لا تُجمِع على حق أو باطل، لم يظهر أن لدى الطيف المعارض في الخارج الذي يتمتع بحرية حركة أوسع ما يواجه به هذا الفراغ غير مزيد من المبادرات المماثلة. وهذه لا تتأخر في الانضمام إلى سابقاتها في تأكيد الفراغ، لا في ملئه. والحال أن هذا الجهد المخفق المتكرر ينبغي أن يدفع إلى التساؤل عن إمكانية تشكيل إطار تنظيمي جامع للمعارضة، وتالياً عن ضرورته. ألا ينبغي أن نستنتج من مضي نحو ستة شهور على تفجر الانتفاضة، وتعثر كل المحاولات لتشكيل قطب سياسي موحد يمثلها، أن هذا لن ينجح؟ وأن توجه الجهود في اتجاه آخر، مثلاً توافقات عامة تلتزم بها القوى السياسية القائمة؟ أو دعم متنوع للانتفاضة، مادي و «لوجستي» وأمني وإعلامي؟ أو جهود أكبر من المثقفين على مستوى التنظيم الفكري والقيمي للانتفاضة، وهو لا يقل أهمية عن تنظيمها السياسي، بخاصة بعد أن أخذت تعلو أصوات بعد سقوط نظام القذافي تدعو إلى تسليح الانتفاضة وإلى التدخل الخارجي؟
ولكن لماذا يستمر تجريب ما جرى تجريبه مراراً ولم يثمر؟ ولماذا يغلب أن يكون منظمو المؤتمرات والداعون إليها من المقيمين خارج البلاد؟ الواقع أن هذه النقطة تساهم في تفسير هذا المسلك العقيم. هناك بالطبع الضغط النفسي الذي يتعرض له المقيمون خارج البلد. يريدون العودة إلى حيث ينتمون، إلى مواطن البدايات والأهل والذكريات. هذه حاجة إنسانية أولية لا تنتظر تبريراً من أي شيء آخر. لكن ليس هذا هو المحرك الأهم لمداومة «الخارجيين» على محاولة تشكيل قطب معارض منظم. نخمن أن للأمر صلة بتحسس مطالب قوى دولية بأن يكون للمعارضة السورية، وحركة الانتفاضة، عنوان تتصل به هذه القوى وتخاطبه كي تبلور سياساتها في شأن الوضع السوري، وربما تحزم أمرها ضد النظام. يتعلق الأمر هنا بفكرة «البديل» التي تشغل موقعاً متقدماً في مقاربة القوى الدولية الكبرى للشأن السوري. فإذا كان هناك بديل جاهز أو سهل التجهيز، أمكن هذه القوى أن تدعو إلى زوال النظام، وتعمل على ذلك دونما تردد.
لكن عدا أن هذه المقاربة متمركزة حول القوى المنظمة وحول أولوية الاستقرار، لا حول المجتمع المنتفض وحاجاته ومطالبه، فإن من شأن تبني معارضين سوريين لها والاستسلام لضغطها أن ينشّط مطامح سياسية خاصة، يمكنها أن تكون خطيرة على الانتفاضة وعلى البلد. هناك تلهف غير رصين، لئلا نقول أكثر، على تشكيل «بديل»، آل في محصلته إلى نتيجة معاكسة تماماً، وإلى تعطيل إمكانية تشكيل مرجعية وطنية محترمة، وربما إلى فقدان احترام القوى الدولية التي قد تكون حضت على تشكيل البديل. ومن هذه المحاولات الخرقاء «المجلس الوطني الانتقالي» الذي أعلن عنه قبل أيام من أنقرة.
أما من جهة المعارضة الداخلية، فالمشكلة لا تتمثل فقط، ولا أساساً، في تنافس تنظيماتها وتخاصمها، بل في تعطل ولا فاعلية كل منها، وفي انعزالها الأكيد عن المعارضة الكامنة في المجتمع، هذه التي تفجرت بصورة غير متوقعة، وأوسع من أي توقع، في الانتفاضة. فإذا جمعت تشكيلات المعارضة الداخلية مع بعضها، كان مستبعداً أن تختلف المحصلة عن بقائها متفرقة. المشكلة في تكوين كل منها، وليس في تفرقها عن بعضها.
لذلك فإن محاولة بناء بديل يمثل الانتفاضة من مجموعات لا فضل لها في تفجر الانتفاضة، ولا هي تقودها، ومشاركتها فيها محدودة جداً، وتأثيرها فيها محدود بدوره، هي جهد في غير موضعه مبدئياً، فوق كونه لا يكف عن التعثر عملياً.
صحيح، المعارضون السوريون ظلموا كثيراً، موزعين بين السجون والمنافي، لم تتح لهم في أي وقت شروط عمل سياسي ملائمة، أو تطور صحي في التفكير والخبرة، أو حتى تفاعل إنساني سوي. وبينما قد يجعلهم هذا جديرين بالاحترام والتعاطف، فإنه ليس مناسباً بحال من أجل قيادة سياسية فعالة. هذا الحكم غير منصف لمعاناة المعارضة التقليدية، لكن إنصافها لا يصلح أساساً لسياسة سورية في المستقبل.
وقد جاءت الانتفاضة في هذه الظروف. وفرض التغيير نفسه على جدول عمل المجتمع السوري والمعارضة. وزاد سلوك النظام العدواني تجاه السوريين المنتفضين من إلحاح التغيير ووجوبه… هذا حين البلد في أشد افتقاره إلى قوة منظمة فاعلة تجنبه مخاطر محتملة. المعادلة صعبة، لكن لا مناص من مواجهة هذا الواقع الحرج، أي القبول بتحدي التغيير من دون بديل مضمون.
أفضل مئة مرة من تلفيق بديل لا يتماسك أن نتبين أننا في بلد خضع لتجريف سياسي جائر طوال نحو نصف قرن، فلا نستطيع تقديم بديل جاهز، وأننا لا نرى وجيهاً توقع البديل الناجز قبل التغيير السياسي أو كشرط له.
نرى، في المقابل، في الزوال المأمول للنظام بداية عملية إعادة بناء وطني شاقة وعسيرة ومديدة، وليس «الحل» أو نهاية المطاف. لن يتشكل البديل الفعلي إلا في سياق إعادة البناء الوطني هذه، أي كأحد وجوه عملية تشكل سورية بديلة.
كاتب سوري
نُشِر في “الحياة”