عدتُ توا من دبي بعد أن شاركت مع زميلات وزملاء من الأسرة الصحفية البحرينية في أعمال الدورة الحادية عشرة لمنتدى الصحافة العربية، فوجدت لزاما عليّ أن أشارك القراء في بعض ما إلتقطته عيناي و سمعته أذناي.
لست هنا، بصدد وصف دبي، وما أنجزته أو ما تتمتع به من جمال ورونق، وتنظيم وبهاء، ورخاء وإزدهار، وإستقرار وأمن مستتب، وبنية تحتية راقية، وتسهيلات خدمية على أعلى المستويات، فهذه باتت من الأشياء البديهية التي تقابلك بمجرد وصولك إلى مطارها، بل باتت من الأشياء التي وصل صداها إلى أطراف المعمورة، إلى الدرجة التي صرنا معها نقول للغريب حينما يستفسر عن موقع بلادنا الصغيرة “إنها بالقرب من دبي”، من بعد أن عشنا دهرا كنا نقول فيه أنها بجوار السعودية أو الكويت. نعم، لقد صار حلم كل فرد، سواء في الغرب المتقدم أو في الشرق الصاعد أن تطأ أقدامه أرض دبي ليرى رؤية العين ما سمع أو قرأ عنها.
لقد تغير الزمن كثيرا، فما كان قبل أربعة عقود فقط جزءا من “ساحل متصالح” تتناثر على أرضه أبنية طينية متواضعة، ووطنا لا يعرفه أحد خارج نطاق بحيرة الخليج، وإمارة فقيرة في بنيتها التحتية، طاردة لمواطنيها، غير جاذبة للأجنبي، بطيئة في حراكها اليومي، كئيبة في شكلها ومظهرها الخارجي، صارت تنافس اليوم سنغافورة وهونغ كونغ، في السياحة والتجارة والخدمات والمرافق والإنشاءات والمواصلات وناطحات السحاب والمهرجانات والأضواء والإستثمارات الأجنبية، بل صار يصفها الغربيون بأنها مكان يجد فيه الزائر والمقيم ما قد لا يجده في نيويورك (تفاحة أمريكا الكبرى) من بهجة ومتعة ومغريات!
لا يكفي دبي أنها تختال مع إشراقة شمس كل صباح فوق هامات السحب كصبية حسناء في يوم عرسها، ولا يكفيها أنها تقدم كل يوم ما هو ماتع ومبهر وجديد ومبتكر، ولا يكفيها ميناءها الأسطورة في جبل علي الذي تحول في غضون سنوات قليلة من شاطيء مهجور للصيادين إلى منطقة حرة تقصدها كبريات شركات الشحن، ومطار يستقبل اكثر من 120 مليون مسافر سنويا، وحاضنة لجيوش من العمال والفنيين من أصقاع الدنيا، وإنما تحاول أيضا أن تكون عاما بعد عام حاضنة للمبدعين والمفكرين، وحملة الأقلام والعدسات، والمتخصصين في الإعلام الجديد، من أبناء السلطة الرابعة، فتجمعهم تحت سقف واحد من شتى أرجاء الدنيا، ليتعارفوا ويتحاورا ويتبادلوا الأفكار والتجارب بحرية تامة وجرأة وشفافية، علّ ذلك ينير الطريق أمام الأجيال الإعلامية الشابة، أو يبعث بدماء وأفكار جديدة في جسد الجيل الحالي من الإعلاميين الذين عاشوا حقبتين مختلفتين، شتان ما بينهما من حيث الأدوات والوسائل، وسرعة الحركة والتواصل، وكم المعلومات المتدفقة، ومساحة الحريات المتاحة.
وسط نحو 3000 إعلامي وإعلامية إستضافهم منتدى دبي للصحافة هذا العام، وجـُنـّد لإستقبالهم والسهر على راحتهم جيش من طلبة وطالبات كليات الإعلام في جامعات الدولة العامة والخاصة، وجدتُ نفسي مجهدا لكثرة ما كررت من إجابة على سؤال واحد ظل يتردد على ألسنة كل من ألتقيتهم من إعلاميين من دول الخليج العربية ولبنان ومصر والأردن والمغرب وتونس. كان محور هذا السؤال هو “كيف حال البحرين؟ وإلى أين تمضي أمورها؟ وهل هناك آفاق لحسم أزمتها؟”
وبقدر ما أسعدتني تلك التساؤلات التي جسدتْ حب الكثيرين من الزملاء – ولا سيما من الأشقاء الخليجيين – للبحرين من ناحية، وخوفهم عليها من ناحية أخرى، فإني تمنيت لحظتئذ لو كنت أمتلك قدرات خارقة من تلك التي لا تتوفر إلا لأجهزة الإعلام الرسمية والحكومات ذات الميزانيات الضخمة كي أضع الجميع أمام الحقيقة والواقع بالصوت والصورة، والأرقام والبيانات، فأخرس بها كل من يحاول التذاكي أوالتحجج بنص تويتري مجهول المصدر أو بإسم وهمي، كدليل على مشروعية النهج التخريبي الذي يسير عليه ما يسمى بـ “جمعيات المعارضة” البحرينية.
ولأن البحرين “تستاهل”، فقد قمتُ بما يمليه علي واجبي وضميري، لكن الجهد الفردي مهما كان شكله، لا يـُحدث تأثيرا في قناعات ومواقف المتلقي بالشكل الذي يـُحدثه الجهد الجماعي المنظم المستند إلى قاعدة صلبة من المعلومات والبيانات، خصوصا حينما تكون هناك تحت القبة نفسها فئة مضادة، جاءت من غير دعوة لتستغل الحدث في فبركة الأخبار، ودس السموم، وقلب الحقائق ضد وطنها، أو تكون هناك فئات أخرى تبارك مساعي الأخيرة وتعمل على مساندتها ودعمها لوجستيا بسبب إلتقاء أجنداتها و أهدافها الطائفية المقيتة.
تمنيت وقتها لو كان لـ”الإعلام البحريني الرسمي” حضور هناك عبر منصة أو زاوية تديرها مجموعة من الشباب المؤهلين من خريجي كليات الإعلام، أو المتخصصين في مجال العلاقات العامة وذلك من أجل المساهمة في تنوير من يبحث عن حقيقة الأوضاع في البحرين. لكني تذكرت أن هذه الأمنية قديمة، ونقلنا فحواها قبل أكثر من عام للجهة المعنية، متمنين عليها أن تستعد للتجمع الإعلامي في دبي في شهر مايو من كل عام، وأن تحجز لها فيه موقعا عبر التواصل مع الأشقاء في دولة الإمارات العزيزة الذين لا نشك لحظة واحدة أنهم سيترددون في مد يد العون لأشقائهم في البحرين. لكن يبدو أن عمك “أصمخ”، أومشغول بأمور أخرى أكثر من إنشغاله بصورة وطن إستباحتها قوى الإفك، وقنوات الدجل الفضائية، ومعهما شخصيات رسمية عربية وأجنبية حاقدة، حتى باتت البحرين الموصوفة بـ “أم البلادين” ملطشة لكل من هب ودب.
إنه لعمري أمر محزن ألا يـُولي الإعلام البحريني هذا الأمر إهتماما، وينشغل عنه مثلا بتشكيل لجان التفتيش والتنقيب لفحص كلمة هنا او عبارة هناك وردت في مسودة عمل أدبي روائي (وليس سياسي) قائم على الخيال البحت لمواطن مخلص ، قبل حجب إذن الطباعة والنشر عنه تحت ذرائع واهية لا تصمد لحظة أمام ما نعيشه في اللحظة الراهنة من فضاءات مفتوحة على مصراعيها للمعرفة والقراءة والتدوين والإطلاع من تلك التي بإمكان أي مبدع أن يضع مؤلفه بداخلها ليقرأه الملايين دون رقيب أو حسيب. ويزداد الألم والإحباط حينما تدعو القيادة في كل خطاب لها إلى فتح الأبواب أمام المبدعين وتشجيعهم وإيلائهم الإهتمام الكافي، وصون حريتهم في التعبير والإنتاج، ليأتي مسئولون من الصف الثاني ويصدروا فرمانات معاكسة، فيسيئون بذلك ليس لأنفسهم وإنما لوطن عـُرف منذ الازل بالريادة والإنفتاح والحريات.
ونختتم ببعض ما كتبه الصديق سمير عطاالله عن دبي بعد مشاركته معنا في المنتدى آنف الذكر .
“يأتي إليها ويمر بها ملايين الزوار، وليس بها نهر أو جبل ولا نسمة مجانية كبلاد الأرز، ولا فيها نيل أو أقصر. دبي صيغة مناقضة للعالم العربي. تعمل وتعيش، ولا تثرثر، وتجري معاملاتها مع الدولة عبر الإنترنت، وليس عبر ميادين التحرير والعباسية. وفيها حريات كثيرة ليس بينها حرية الإعتداء على أملاك الناس وأرزاقهم وأعمارهم.”
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh