إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
خلال الحرب المحدودة الأخيرة بين الهند وباكستان في ايريل 2025 على خلفية الهجوم الارهابي في وادي بايساران بكشمير، تردد إسم قاعدة نورخان الجوية الباكستانية بعد استهدافها من قبل القوات الهندية ضمن عمليات قصف انتقامية، حيث تبين أن الاستهداف كان مقصودا كون القاعدة تعد مقرا لمقاتلات باكستان الأحدث والأهم في سلاحها الجوي، وتعمل ايضا كمستودع لوجستي للقوات الجوية الباكستانية.
لكن ما ظل لغزا محيرا هو نجاح الولايات المتحدة السريع في تهدئة الأوضاع بين الجارتين اللدودتين، ومنع إسلام آباد من الرد على قصف درة قواعدها الجوية، واقناع نيودلهي بوقف استهداف القاعدة مجددا والإكتفاء بما حدث. ذلك أن تسلسل التدخل الأمريكي يطرح أكثر من علامة إستفهام. فالولايات المتحدة أعربت على لسان نائب رئيسها قبل ساعات من قصف قاعدة نورخان أنها لن تتورط في نزاع لا يخصها، لكنها غيرت موقفها 180 درجة بعد قصف الهنود للقاعدة، وراحت تتحرك من خلف الكواليس لنزع فتيل الأزمة، واجبار المدير العام للعمليات العسكرية الباكستانية للتحدث مباشرة مع نظيره الهندي من أجل اتفاق متبادل لوقف إطلاق النار.
يزعم المحلل الأمني الباكستاني المعروف “إمتياز غول” أن اهتمام واشنطن السريع بالحدث وتدخلها الناجح في احتواء الموقف المتفجر، لا تفسير له سوى الأهمية الإستراتيجية الكبيرة لقاعدة نورخان، ليس للباكستانيين فحسب، وإنما أيضا للأمريكيين، فالأخيرة، طبقا لمزاعم غول، تملك سيطرة عملياتية على القاعدة بموجب اتفاقيات سرية مع إسلام آباد، لا يُعرف تفاصيلها الدقيقة. ويضيف غول أن أهمية القاعدة المذكورة للباكستان نابعة من قيمتها الإستراتيجية بسبب موقعها القريب من العاصمة إسلام آباد ومن مدينة راوالبندي المجاورة، واحتضانها للمقر العام للجيش ووحدات العمليات الخاصة وقسم الخطط الإستراتيجية الذي يدير الترناسة النووية للبلاد. أما أهميتها للولايات المتحدة فنابعة أيضا من موقعها ومرافقها اللذين يسمحان للقوات الأمريكية استخدامها في هبوط طائراتها واقلاعها بانتظام وفي أجواء من السرية والشفافية المحدودة للقيام بمهام عسكرية سرية مختارة لإحباط مخططات إرهابية محتملة أو تأديب ميليشيات متمردة ضد حكومات صديقة.
وهذه المزاعم إنْ صحت فإنها تنسف ما يذهب إليه بعض المراقبين من أن واشنطن تخلت نهائيا عن حليفتها التاريخية الباكستانية لصالح الهند، الأكثر قدرة واستعدادا للانخراط في مخططات واشنطن الخاصة بمواجهة نفوذ التنين الصيني وتحجيمه، خصوصا بعد أن تحول التعاون الباكستاني الصيني إلى مستوىات عالية من الشراكة الإستراتيجية متعددة الأوجه. وتؤكد من ناحية أخرى استمرار ما بدأ في عام 1958 من تعاون عسكري باكستاني أمريكي محدود، سرعان ما توسع وتعزز كثيرا خلال سنوات الحرب الباردة، ورافقه دعم مالي واقتصادي ودفاعي ضخم، لاسيما إبان الحرب الأفغانية في الثمانينات والحرب الأمريكية على الإرهاب في التسعينات.
إن مزاعم “غول” فتحت أعين مراقبين كثر على موضوع طبيعة الوجود العسكري الأمريكي في باكستان، ونوعية التحالفات الجديدة بين واشنطن وإسلام آباد وكيفية مواءمتها مع التحالفات الباكستانية الصينية المتعاظمة. وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور تقارير تتحدث علنا حول أمور مثل احتواء قاعدة نورخان الجوية على بعض الأقسام المخصصة لإستخدام الأمريكيين حصريا، وتقييد الوصول إلى القاعدة إلا لعدد محدود من كبار الجنرالات، وتشديد الرقابة على مخارج القاعدة ومداخلها.
ومن هنا، يؤكد بعض المراقبين والمتخصصين في شؤون جنوب آسيا أن تدخل واشنطن السريع والحاسم والناجح في الحرب الأخيرة بين قطبي شبه القارة الهندية يحمل في طياته استمرار العلاقات التاريخية القديمة بين واشنطن وإسلام آباد أو تجديد ما كان بينهما من تعاون استراتيجي طويل خلال الحرب الباردة حينما كانت الولايات المتحدة تستخدم ــ بموافقة إسلام آبادــ منشآت عسكرية حيوية مثل قواعد “شمسي” و”شهباز” و”دالبندين” و”بادابر” لتنفيذ غارات بطائرات من غير طيار، والقيام بعمليات استطلاع وجمع معلومات استخباراتية، وشن عمليات لوجستية في أفغانستان، وذلك مقابل حصول باكستان على مساعدات وتسهيلات بمليارات الدولارات.
وتفيد الإحصائيات الأمريكية المتوفرة أن باكستان حصلت منذ عام 1958 على حزمة قروض مدعومة أمريكيا من صندوق النقد الدولي بلغ مجموعها نحو 34 مليار دولار، إضافة لهبات إنسانية لإعادة تأهيل المناطق المتضررة من الكوارث في باكستان وبرامج دعم لصيانة وتحديث أسطول مقاتلات “إف 16” الباكستاني، بل أن واشنطن قامت خلال الحرب الخاطفة الأخيرة بتسهيل حصول باكستان على مليار دولار من صندوق النقد الدولي. وعلى الرغم من امتعاض الهنود من تلك القروض ومخاوفهم من استخدامها في أغراض عسكرية، فإن واشنطن استمرت في تقديمها على أمل ايقاف التعاون الباكستاني الصيني أوتحجيمه، بينما فضلت نيودلهي الصمت على أمل فشل مراهنة الأمريكان على باكستان كحليف موثوق.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي