لم تكن الكتابة عن نصر حامد أبو زيد جزءا من المخطط الأصلي للقسم الثاني من مقالة تستهدف تشخيص المثقف ونقده، لكن تأجيلها والكتابة عنه تجد ما يبررها في أمرين:
أولهما، حجم الخسارة التي ألحقها غيابه بالثقافة العربية، وثانيهما إمكانية الكتابة عنه كأحد النماذج الأصلية للمثقف في الأزمنة الحديثة، وقد كان هذا النموذج، بالذات، في صلب المخطط الأصلي للقسم الثاني من المقالة المذكورة التي نأمل نشرها في الأسبوع القادم. والواقع أن الأمر الثاني يفسّر الأوّل، فلن يتسنى لنا إدراك حجم ما نجم عن غيابه من خسارة ما لم ندرك أي نوع من المثقفين كان نصر حامد أبو زيد.
ويمكننا العثور على جانب من هذا المعنى في الكلمة التي ألقاها، قبل رحيله بوقت قصير، في المؤتمر السنوي للجمعية الفلسفية المصرية، وانتقد فيها غياب الحريات وتدهور البلاد والعباد في العالم العربي، داعيا إلى التصدي بلا خوف للإرهاب والفساد والاستبداد، واختتمها بعبارة ربما تمثل تشخيصا للمثال الذي أراده لنفسه: “المثقف ـ وعنوانه أستاذ الجامعة ـ حارس قيم لا كلب حراسة”.
ونحن، بالتأكيد، لا نستطيع التعامل مع الأوصاف التي يرتضيها الناس لأنفسهم، أو يقترحونها على الآخرين كمُثلٍ تُحتذى، ما لم يكن في سيرهم الشخصية، ومواقفهم الفكرية ما يبرر أخذها على محمل الجد. وبقدر ما يتعلّق الأمر بأبي زيد فإن في سيرته الشخصية، ومواقفه الفكرية، ما يجعل منه وسيلة إيضاح ناجحة لمعادلة “مَنْ يخسر يربح”، التي صاغها عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في معرض تحليله للحقل الثقافي.
الحقل الثقافي، في نظر بورديو، هو حقل اقتصادي مقلوب، فخسارة المثقف بالمعنى المادي من قبيل الحرمان من الوظيفة، أو الحقوق المدنية، أو الاعتقال والتعذيب، أو النفي خارج البلاد، أو معاناة الفقر وشظف العيش، أو القتل، تُسهم فرادى أو مجتمعة في زيادة وتعزيز رأسماله الرمزي. وبناء عليه، فإن المثقف الذي يعاني، بهذا القدر أو ذاك، من الخسارة، يربح مكانة رمزية أفضل في الحقل الثقافي، وينسجم أكثر مع الصورة المثالية للمثقف حارس القيم، الزاهد في المكاسب المادية، المستقل عن السلطة، والمدافع عن الحقيقة.
وقد خسر أبو زيد حقه الوظيفي، كما تعرّض لاحتمال خسارة الزوجة بحكم من القضاء يقضي بالتفريق بينه وبين زوجته، وتعرّض للتكفير والتشهير والتهديد بالقتل، صُودرت كتبه ومُنعت في أكثر من بلد، عاش في المنفى، وكانت آخر أشكال الاضطهاد قبل أشهر قليلة منعه من دخول الكويت بعد وصوله إلى مطارها، تماما مثلما حدث مع المفكر الأميركي نعوم تشومسكي الذي منعه الإسرائيليون من دخول الضفة الغربية بعد وصوله إلى الجسر. في الحالتين كان المثقف عرضة للاضطهاد لأنه يجابه سُلطة قائمة بحقيقة مضادة.
على أية حال، يضمن كل ما ورد من خسارات لأبي زيد مكانة رفيعة في الأولمب الذي شيّده جوليان بندا للمثقفين الحقيقيين، وطرد منه الخونة الذين انخرطوا في مهنة القولبة الفكرية للأحقاد السياسية.
فما الذي فعله أبو زيد وعاد عليه بالويل والثبور وعظائم الأمور من ناحية، وبرأس المال الرمزي الوفير، والمكانة الرفيعة من ناحية ثانية؟
لم يفعل أبو زيد سوى قول الحق في حضرة السُلطة. والسُلطة، هنا، اختزال لسُلطات: سُلطة الدولة، وسُلطة المؤسسة الدينية المتحالفة معها، وسُلطة الثقافة السائدة، وسُلطة المُقدّس، وسُلطة المؤسسة الأكاديمية. وقد فعل ذلك بأدوات الناقد الأدبي في المقام الأوّل، حين حاول توظيف مناهج اللسانيات الحديثة في تحليل النص المقدّس، ثم أنفق ما تبقى من عمره في دراسة وتحليل ونقد الأصولية القديمة والمستحدثة.
وإذا شئنا الاستطراد في معنى قول الحق، فلنفكر بما يقوله غرامشي عن الحقيقة فهي مسألة: لا تتعلّق بالترابط المنطقي لقناعات بعينها، ولا بما يتوفر من إجماع على صحتها، ولا بمدى انسجامها مع واقع تجريبي بعينه، بل هي ما يترتب على الفعالية العملية للأفكار من تداعيات سياسية وثقافية واجتماعية.
الأفكار، في نظر غرامشي، هي ما ينجم عن ويتأثر بأوضاع اجتماعية واقتصادية متغيّرة. وقد نجمت مأساة أبي زيد عن مجابهة حقيقة تكونت في سياق ظروف اجتماعية واقتصادية معيّنة وتأثرت بها، بحقيقة تكونت في سياق ظروف اجتماعية واقتصادية جديدة وتأثرت بها.
وما كان على المحك في المجابهة هو الفعالية العملية للأفكار. بمعنى آخر، فإن تداعيات الذهاب في توظيف مناهج العلوم الحديثة إلى نهايات منطقية، لا تزعزع سُلطة هذه المدرسة التراثية أو تلك وحسب، بل وتزعزع كافة السُلطات المعتمدة في بقائها عليها، بما فيها سُلطة الدولة الاستبدادية نفسها. المسألة، إذاً، أبعد من خلاف على تفسير النصوص، واختلاف في مدارس التأويل. فهي دائما سياسية بامتياز.
المثقف حارس قيم، بالتأكيد، في الجامعة وخارجها. وقد كانت قيمة العقل والعقلانية على رأس القيم التي أنفق أبو زيد عمره في حراستها وحمايتها. خسر الكثير وربح أكثر. فمن يخسر في حالات بعينها يربح.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
في وداع نصر حامد أبو زيد..!! أسامه عسكر — asker9@yahoo.com حيثيات حكم المحكمة جمال سلطان ونواصل استعراض حيثيات حكم محكمة الاستئناف في قضية نصر حامد أبو زيد وقد وردت كالتالي : …وقد اطلعت المحكمة على مؤلفات نصر ابو زيد وهي : نقد الخطاب الديني ، الامام الشافعي وتأسيس الايدلوجية الوسطية ، مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ، إهدار السياق في تأويلات الخطاب الديني …وتورد المحكمة بعض العبارات من كتبه كتاب نقد الخطاب الديني ص 198 / 199 تتحدث كثير من ايات القرآن عن الله بوصفه ملكا بكسر اللام له عرش وكرسي وجنود وتتحدث عن القلم واللوح وفي كثير من… قراءة المزيد ..