كان صيته قد طبل الآذان منذ كنا في المرحلة الثانوية، باعتباره احد المناضلين الاول من اجل انشاء الجامعة اللبنانية وقيادة نضالات اهلها وقوى المجتمع الديمقراطي من اجل تعزيز وضع اساتذتها بإنشاء قانون التفرغ وغيره من القوانين التي جعلت من الجامعة اللبنانية صرحا اكاديميا مميزا. مع ذلك، فإن المرة الاولى التي شاهدت فيها د. حسن مشرفية، كانت في اليوم الاولى لحضوري الى مبنى كلية العلوم الجديد في الشويفات والذي انتقلت إليه الكلية من مبانيها المؤقتة في الاونيسكو، تلك المباني التي كانت جزءا من ثكنة عسكرية للجيش الفرنسي والتي كانت لا تشبه الجامعات في شيء. فقد لمحت شخصا قصير القامة، علمت فيما بعد انه العملاق حسن مشرفية.
كان د. حسن يقف في الطابق الارضي الفارغ، يراقب مبتسما حشود الطلاب القادمة للكلية من كافة المناطق والفئات والطبقات.
كان يدخن غليونه وينظر بعين الرضى والفخر والامل ايضا الى جماهير الطلاب التي تتقاطر للمباني الجديدة والتي قيل عنها عند افتتاحها انها الاجمل والاهم والاكثر حداثة بين جامعات المنطقة. وكان الراحل الكبير قد اشرف على تصاميمها وبنائها وتجهيزها واطلاقها وكأنه يشرف على بناء منزل العائلة. ذلك انه هو من انشأ كلية العلوم اصلاً، وكان اول عميدٍ لها. وقد سهر على تأمين اساتذتها عبر اكتشاف البعض وارسالهم للدراسة في الجامعات المتقدمة، كما عبر ايفاد المجلين من الطلاب بمنح اختصاص الى ارقى واهم الجامعات الاوروبية والاميركية. وقد حرص الراحل على الحفاظ على مستوى علمي متقدم لا يخضع للمساومات والتسويات والتسييس، لذا مثّل خريجو الكلية صيدا ثمينا للثانويات الخاصة والرسمية، حتى ان مركز الرياضيات الجامعي والمُدار فرنسيا اغلق ابوابه بسبب من هجرة طلابه نحو كلية العلوم وتبعَهم بالطبع الاساتذة الفرنسيون كما اللبنانيون.
لم يكن د. مشرفيه وزملاؤه الفخورين الوحيدين في اليوم الاول لبدء التدريس في الكلية. فقد دهشنا حين وصلنا الى هذا الصرح الجميل والذي كانت تصدح من ارجائه الموسيقى الكلاسيكية، خصوصا حين تنقلنا في المدرجات الحديثة ذات الالواح المتحركة، كما دهشنا حين وجدنا برك السباحة والمطعم الخاص بالكلية، فضلا عن الباحات الخضراء والمكتبة الانيقة والمختبرات الحديثة والاجواء الاكاديمية التي تشجع على الدراسة، كما على الحوار واالتنافس الديمقراطي بين المكونات المختلفة من اهل الكلية، طلابا واساتذة وموظفين. وقد عمل الراحل مع رفاقه الاوائل امثال الراحلين الشيخ بديع تقي الدين وجيلبير عاقل وجوزيف ابي نادر(على سبيل المثال لا الحصر) الى بناء عائلة كلية العلوم، وهذا ما جعله يستطيع احتواء بعض تشنجات ومواجهات الطلاب التي عكست الصراعات والنزاعات والخلافات المتصاعدة في البلد في السنوات التي سبقت الحرب الاهلية.
والاهم ان سمعة الكلية ومنشئها وعميدها كانت قد فاضت الى الجامعات الاوروبية، حيث كان طلاب العلوم، الممنوحين خصوصا، يُعاملون بشكل مميز، فيعفون من التسجيل في maitrise التي كان على القادمين من جامعات البلدان النامية انجازها قبل الانتقال إلى DEA على طريق الدكتوراه.
لقد كان للراحل مكانة خاصة في هذه الجامعات، حتى انه في بعض الجامعات الفرنسية، فان توقيع حسن مشرفية على وثيقة ما، كان يعفي صاحبها من بقية التوقيعات والترتيبات في وزارات التربية والخارجية.
ومع ان بصمات الراحل طبعت كلية العلوم بكافة مراحلها التأسيسية، حيث رفعها لمصاف كليات العلوم في ارقى الجامعات، تعليما وابحاثا وادارة وتنظيما، حتى اصبح المرور فيها ولو لسنة واحدة يشكل مدعاة تباه وقوة لصاحبها، خصوصا اذا كان ذاهبا لكليات الهندسة والطب في جامعات الخارج، الا ان تأثيره كان اساسيا وقويا في عموم الجامعة اللبنانية التي كان مقررا لوضع قانون تنظيمها ودافعا لتأسيس مجلس البحوث العلمية ولمنح التفوق والاختصاص.
قاد د.مشرفية اضرابا وطنيا من اجل المدينة الجامعية التي شكلت كلية العلوم بالطبع اولى لبناتها في الحدث، علما ان استكمال الابنية الجامعية الأخرى كان عليه ان ينتظر الراحل الآخر الرئيس الشهيد رفيق الحريري في تسعينيات القرن الماضي لنشهد انشاء بقية الكليات، وهو ما كان لنا حظ مواكبته كمسؤولين في قيادة رابطة الأساتذة المتجددة مع تشجيع د.مشرفية والنقابيين الأوائل، ما شجعنا لإطلاق معركة المدينة الجامعية في الشمال التي انطلقت من كلية العلوم في طرابلس أيضا على يد تلاميذ مشرفية.
ورغم ان الاكاديمي الابرز وبروفسور الفيزياء كان صارما وصلبا رغم دماثته، الا انه لم يكن شخصانيا ولا فرديا ولا متعاليا،
فقد تعامل مع زملائه في كلية العلوم على قدم المساواة معتبرا ان الانتماء للكلية يتقدم الانتماءات الأخرى على تعددها.
كما عمل على تأسيس رابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية ودعم الاتحاد الوطني لطلابها، وعمل بقوة من اجل استقلال الجامعة الاداري والمالي وابعادها عن التسييس، وشكل مع الراحلين جيلبير عاقل وصادر يونس جبهة قوية داخل مجلس الجامعة في مواجهة اي شطط.
لم تكن السياسة عنده بمعناها اللبناني هدفا عندما وافق على الانضمام الى حكومة الشباب في بداية السبعينيات من القرن الماضي كوزير للتصميم، الى جانب كبار من امثال غسان تويني واميل بيطار وهنري اده، الا انه فاض عن كوب الوزارة حين وضع خطة خمسية جريئة، علمية ومتقدمة، كما فعل زملاؤه الاصلاحيون الآخرون والذين اكتشفوا جميعا ان الكوب الشبابي منخور كالجبنة السويسرية نتيجة النظام الطائفي السياسي المسدود الافق، علما ان هذا النظام قد سمح بنسبة من الحرية، ما جعل كأس النبيذ لذيذ المذاق مع الجبنة السويسرية ولكنه لم يغني عن جوع.
لم يكن د.مشرفية ضد التفريع في المبدأ، ولكنه دعا لمقاومة تداعيات التفريع الامني الذي اعقب الحرب الأهلية والذي تحول الى تفريع سياسي وطائفي وحتى مذهبي(لا غرابة بعد ذلك ان يعاند اساتذة الشمال من مريدي الناسك الأكاديمي الراحل، تحويل شعبتهم الى فرع رغم تيار التفريع الجارف).
لم يثن التقاعد الراحل عن متابعة النضال الأكاديمي، فعمل على تحفيزنا جميعا لبذل الجهود لوقف التسييس والتدهور في الجامعة التي كان من اوائل بناتها، وكان أول أستاذ فيزياء فيها حين بدأت كدار عليا للمعلمين، ولطالما كان يشد على ايادينا في المرات القليلة التي كان لنا حظ لقائه، حين يحضر من منفاه الفرنسي الطوعي الذي اختاره بعد ان وجد ان التدهور في الجامعة وفي البلد لا قعر مرئي له، وان مناشدته للمسؤولين وقوى الأمر الواقع للحفاظ على استقلالية واكاديمية الجامعة تطيش في الهواء الملوث والذي يزداد تلوثا كل يوم.
يغادرنا د.مشرفية في وقت تختلط فيه النفايات على انواعها وتخترق لوثة الشخصانية والوصولية منوعات النحب اللبنانية وتتهدد سيادة الدولة وهيبتها وحتى كيانها تحت المطارق، ويتحول التلوث والإهتراء الى آفة تطال جميع مؤسسات الدولة بما فيها مؤسساتها التربوية والاكاديمية، ومع ذلك سيبقى كثر في الجامعة اللبنانية وخارجها متمسكين بارث حسن مشرفية الاكاديمي والمؤسساتي والديمقراطي.
واخيرا نقول ان كلية حسن مشرفية في الحدث تعرضت للتخريب مرارا على يد الميليشيات، بما فيها سرقة لوحة الافتتاح.
واذا كان من البديهي ان نطالب باعادة اللوحة وبتسمية الكلية باسم مؤسسها وان يقام نصب التكريم للعملاق الحداثي والاكاديمي، فإننا نرى كما اسلفنا ان ارثه وارث امثاله من الكبار، سيظل يشكل حافزا لكثيرين على التمسك بالأمل بإعادة النهوض الاكاديمي، كما بإعادة نهوض قوى لبنان الديمقراطي، لبنان الحداثة والتنوع الغني، كما ينهض طائر الفينيق.
فنم يا استاذنا قرير العين، عزاؤنا انك اعطيتنا المثل وزرعت فينا الامل وجلبت لأهلك واصدقائك وزملائك جميعا وللبلد عموما الفخر قبل العزاء.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس – لبنان
كان لي الحظ والشرف أن أكون من طلّاب هذه الكليّة ، كلّية العلوم في الجامعة اللبنانية، فرع الحدت لثلاثة أعوام ، حصلت فيها على إجازة في الرياضيات وقدعلّمني فيها كثير من الأساتذة ومنهم بديع تقي الدين وجيلبير عاقل( الذي أصبح زميلي في المعهد الأنطوني أوائل التسعينات) وقد قابلت بالصدفة العميد مشرّفيّة عندما كنت اتحدّث مع تقي الدين لأسباب أكاديميَة. تخرّجت بعد ثلاث سنوات ودخلت إلى فوراً إلى التعليم الثانوي الرسمي وعرفت قيمة ما تعلّمت أثنا تعليمي لتلامذة الفرع الثانوي وخصوصاً السنة الثالثة التي تحضّر الطلاب الى الجامعة. رحمهم الله
سلمت يداك يا دكتور طلال، إنها مقالة رائعة، ووفاء أروع، واقترح أن تقوم رابطة قدامى الأساتذة في الجامعة اللبنانية بتنسيق مع وزارة التربية ورئاسة الجامعة بالدعوة إلى مؤتمر لتكريم الراحل أولاً، وللحديث عن مشروعه العلمي الثقافي ثانياً، واقتراح معالجات لنواقص الجامعة ولتطويرها.