الحياة الجديدة ثورة في جميع أبعاد الحياة بما فيها الدينية. لكن التيار الديني، وبالذات الفقهاء، رفضوا تلك الثورة وواجهوها بكل ما يملكون من سلاح، مستندين في ذلك إلى النقل أو النص التاريخي، واشترطوا لقبول أي منجز عقلي جديد – الذي لم يمس الوسائل فحسب بل المفاهيم، كما مس أيضا مناهج تفسير النص الديني – أن يكون متوافقا مع التاريخ والتراث ومتماشيا مع خطابهم الديني. وبعض الفقهاء أظهروا قبولهم لبعض أطر الحداثة ليستغلوا وسائلها لتحقيق مآربهم السياسية والاقتصادية بل والشخصية، فيما البعض الآخر واجهها بكل صراحة ووقف في الضد منها، وبالذات مفاهيمها، حيث وجد بأنها تشكل تهديدا رئيسيا لمفاهيمه القديمة التي يستند إليها لدعم سلطته الدينية. لقد ظهرت بفضل الحداثة مفاهيم جديدة في الحياة، كما تغير العديد من المفاهيم التي كانت تمثل أسس الحياة القديمة. لذلك عارض الفقهاء هذا الجديد وذلك التجدد، وواجهوه بقوة، وكانت المواجهة في كثير من الأحيان عنيفة، لأنهم اعتبروا الأمر بمثابة تحد للدين من شأنه أن يعرّض للخطر الصورة التاريخية الكامنة في ذهنهم بشأن الحياة. فالحياة الجديدة هي انقلاب بكل المقاييس على الحياة القديمة، فكيف يمكن لأنصار القديم والماضي والتراث أن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء ذلك؟ كيف يمكنهم أن يستغنوا عن مفاهيم بنت لهم قوتهم وحضورهم في المجتمعات؟
وبما أن الشأن التقليدي المحافظ كان السمة البارزة للحياة القديمة، فإن الحداثة والتجدد باتت سمة الحياة الجديدة. وفي هذه الحياة، الحديثة، توجد علاقة وثيقة بين منابع المعرفة القديمة، التي كانت جزءا من حياة الإنسان وهي الآن في طور الزوال، وبين منابع المعرفة الحديثة. لكن كل قديم لابد أن يفنى ما دام الجديد قادرا على أن يحل مكانه. فالحداثة بمثابة عملية استبدال الأجساد والمفاهيم الميتة بأجساد ومفاهيم جديدة. فالإنسان حينما يصل إلى مرحلة يستنتج خلالها أن الآلة المحركة لمنابعه لم تعد تشتغل بصورة جيدة، أو أنها فقدت تأثيرها في الحياة، يتجه بصورة أوتوماتيكية إلى منابع أخرى قادرة على الإنتاج.
هذا المبدأ بالنسبة للتراثيين أنصار الدين التقليدي من فقهاء ورجال دين، يعتبر أحد الأخطار الرئيسية التي تهدد منابع قوتهم وحضورهم الاجتماعي. فاعتقادهم يستند إلى عدم التفريط بالقديم وإن كان الجديد أفضل منه. والموقف من مفهوم حقوق الإنسان يدلل على ذلك. ففي الحياة الجديدة تغيرت النظرة إلى الإنسان، وظهر مفهوم جديد يفسر تلك النظرة، وبات وجود الإنسان يستند إلى “حقه” في الحياة انطلاقا من استقلال عقله لا إلى ما يملى عليه من مسائل وأمور و”تكاليف”. فمن خلال الحقوق ظهرت التكاليف الواجب تنفيذها، وانطلاقا من ذلك تغيرت النظرة إلى حقوق الإنسان، وبات احترام حقه في الحياة، بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه وجنسيته، هو الأصل. في حين لا تزال النظرة الدينية الفقهية الراهنة إلى الإنسان تعود إلى التاريخ وتعتمد على الرؤية التراثية التي تكبل الفرد بأغلال تاريخية – اجتماعية. فلا يزال المسلم وغير المسلم، والذكر والأنثى، والعبد والحر، هي معايير يستخدمها التيار الديني لتحديد احترام الإنسان للإنسان. ولايزال مفهوم المساواة بنظرته الحديثة يواجه صدا بل وتحديا من قبل الخطاب الديني الفقهي. فالمسلم لا يزال يعيش تحت كنف مفهوم التكليف الفقهي الشخصي. فما يكلفه به رجل الدين الفقيه من أحكام دينية ودنيوية واجب عليه سمعها وطاعتها وتطبيقها حتى لو عارضت المبادئ الحديثة لحقوق الإنسان المتفق عليها دوليا أو تصادمت مع الدساتير المحلية الحديثة. فالذي له أولوية في الطاعة ومن ثم في التطبيق، وفق الفهم الديني التاريخي، هو أحكام الدين المنطلقة من أفواه الفقهاء الناطقين باسم الله. إذاً هو صراع بين العقل الحر والنقل التاريخي الديني الاجتماعي. فالعقل حينما تحرر من أسر الدين والتراث والنقل استطاع أن يحقق قفزات نوعية في الحياة، ظهرت نتائجها في التطور الذي نشاهد منجزاته راهنا في جميع مجالات الحياة، المادية منها والمعنوية وغيرها. وما معارضة رجال الدين الفقهاء لذلك التحرير إلا دليل على خوفهم من فقدان سلطتهم الدينية وضياع مصالحهم الشخصية.
إن ثقافة التيار الديني، إضافة إلى عدم توافقها مع الحياة الحديثة، تسعى إلى القفز على أطر الحداثة من خلال الإدعاء بأنها تمتلك نظاما متكاملا للحياة صالحا لكل زمان ومكان ولو ارتبط بالتاريخ. فهي تتشدّد في ادعاءاتها رغم أنها غير منتجة لمفاهيم الحياة الحديثة حيث إنها تتفاعل مع بعضها وتخاصم أخرى، وبالتالي فهي لم ولن تنتج أساليب التعامل مع تلك المفاهيم. فعلى سبيل المثال، من غير المعقول ادّعاء تلك الثقافة احترامها لقضايا حقوق الإنسان في حين لا تزال تشرعن لانتهاك العديد من القضايا والحريات، كانتهاك حقوق الفكر والتفكير، وحقوق المرأة، وحقوق غير المسلم. تلك الانتهاكات هي قبل كل شيء انتهاك للفطرة البشرية، وإذا ما لم تتم مراجعة منبعها وتصحيح صورتها فإن الهوّة ستتوسع كثيرا بين تلك الثقافة وبين الفطرة الإنسانية والحياة الحديثة. ففي موضوع العنف يستعين فقهاء التيار الديني بالروايات والأحاديث – أي بالتاريخ – لإضفاء ما يسمى بالمشروعية على عمليات قتل المدنيين، رغم أن إسلاميين من نفس التيار يستخدمون نفس المنهج لإضفاء مشروعية مغايرة ترفض قتل المدنيين. وتلك الاستعانة تأتي أساسا بسبب استناد هذا التيار، في تفكيره ودلالاته، على المنهج النقلي التاريخي. في المقابل تنظر مدرسة الحداثة لقضية العنف ضد المدنيين على أساس أنها قضية مستندة إلى المفهوم الحديث لحقوق الإنسان، وبالتالي تربط موقفها بالواقع وليس بالتاريخ، رغم أن التاريخ قد يكون داعما لموقفها. فالرواية التاريخية المقدسة، لا المعرفة الحديثة المرتبطة بالواقع والمستندة إلى العقل الناقد، هي الأساس الذي يستند إليه التيار الديني في تحديد مواقفه من المسائل والقضايا. لذلك من الطبيعي أن نجد تناقضا صارخا بين جماعاته في تشخيص موضوع العنف والإرهاب، وبالتالي في تحديد موقف واقعي تجاهه، كتأييد جهة لقتل المدنيين ومعارضة أخرى لذلك، على أساس أن لكل جهة رواياتها المعتبرة المتواترة، في حين أن استناد الموقف إلى مفهوم حقوق الإنسان يأتي في مرتبة لاحقة، متى ما توافق ذلك مع مصالحها.
إن الغالبية العظمى من جماعات التيار الديني لا تحترم – وفي كثير من الأحيان لا تعترف – بدستور الدولة التي تعيش في ظلّها، إذ تعتبر ذلك الدستور علمانيا ووضعيا ولابد من تجاوزه إذا ما أثبت مخالفته لفهمها للشريعة الإسلامية. لذلك نسمع بين فترة وأخرى فتاوى وممارسات من قبل تلك الجماعات تعكس هذا الأمر، حتى لو تباين ذلك مع دستور الدولة وأدى إلى خلق نوع من الازدواجية في التعامل مع القوانين، كفتاوى الجهاد لمحاربة الكفار، وتشريع العنف لتغيير بعض الممارسات الأخلاقية، وأخذ النصائح والتوجيهات من شيوخ الدين والمراجع حتى لو تضاربت تلك التوجيهات مع القوانين العامة للبلد. بعبارة أخرى السعي إلى القفز على قوانين المجتمع من أجل تنفيذ ما يسمى بحكم الله، الذي هو عبارة عن فهم تلك الجماعات للنص الديني، وهو ما أدى إلى ابتلاء مجتمعات عديدة بالعنف نتيجة لهذه الازدواجية، وإلى تجاهل احترام حقوق الإنسان. فلابد للدساتير الحديثة أن تبنى على الالتزام بالديموقراطية وحقوق الإنسان، وعلى عدم وجود فهم واحد محتكر تجاه الدين والدنيا، والذي هو بالنسبة للتيار الديني حق محتكر لهم وإن ادّعوا عكس ذلك. فارتباط تلك الجماعات – فقهيا واجتماعيا – بالنص الديني التاريخي، هو الذي أدى بها إلى رفض المفاهيم الحديثة ومنها مفهوم حقوق الإنسان، وإلى رفض الدساتير الجديدة الساعية إلى الالتزام بالتعددية الثقافية والاجتماعية قبل السياسية (توزيع الحق بدلا من احتكاره)، وإلى عدم التوافق مع الحياة الحديثة التي أفرزت المجتمع المدني، وبالتالي إلى ممارسة العنف من أجل إعادة الأمور إلى “نصابها” الماضوي التاريخي. لذلك نراها تفرح من المشاريع الدينية الماضوية، ومن فرض الحجاب والصلاة والصيام بالعنف، ومن قتل المدنيين لأنهم يهود وصليبيين، ومن الوصاية غير الإنسانية للرجل على المرأة، ومن تقديم الفقه على القانون والدستور، والسماح بالممارسات غير الأخلاقية في بلاد غير المسلمين على أساس أنها بلاد الكفر التي جلبت مشاكل الحياة الحديثة. فتلك الممارسات العنيفة وغير الأخلاقية ما هي إلا نتيجة طبيعية لسعي حثيث من طرف جماعات التيار الديني للعودة إلى التاريخ، وحينما يفشل مشروع العودة لن تر بدا في ممارسة مزيد من العنف من أجل تحقيق ذلك الهدف التاريخي الضامن لمصالحها غير المشروعة.
ssultann@hotmail.com
• كاتب كويتي
في نقد العودة إلى التاريخ الطريق إلى جهنم معبد اما بوعود أو نوايا الحسنة. عادتا هده المقولة تردد عند ذكر الصليبيين في الشرق , الفاشية في الغرب . كهدا تورطت الأنظمة العربية باستخدام الدين كورقة تاريخية رابحة في السيطرة على شعوبنا بقوانين دينية عتيقة , بدلا من القوانين المعترف عليها كشكل حضاري . أفضل مثال بل مثال طليعي(vanguard )و كنموذج ساطع لا زال قائم إلى اليوم, قدوة حذت بة تدريجيا كل الأنظمة في الوطن العربي , إتباع كنموذج يؤمن لها البقاء على السلطة دهرا وبالتوارث, الوحدة المشتركة بين طرفيين قبلي وديني (( آل سعود والوهابيين )) , حتى الأنظمة القزمة… قراءة المزيد ..