تحوّل “الترحّم“ على ستيفن هوكينغ إلى موضوع خلاف بين مؤيد ومُعارض. أشياء كهذه تحدث في مناطق مختلفة من العالم العربي. ومن المُؤسف أنها وجدت طريقها إلى بلادنا. فهذا يدل، في جانب، على تدهور التعليم، إن لم نقل على إسهام المناهج الدراسية، وفلسفة التعليم، في غرس البذور الأولى لأشياء كهذه.
لن نعثر على دلائل كافية، في الحقل الثقافي العربي، على محاولة إنشاء علاقة جدلية بين البربرية التي تجتاح عالم العرب، وبين معارضة “الترحّم“ على شخص ما لأسباب دينية، بوصفها دليلاً على تبلّد الحس الإنساني، وضمور الضمير المدني. وفي عدم وجود دلالات كافية كهذه ما لا يشعل أكثر من ضوء أحمر وحسب، بل وما يحرّض على القول إن الليل طويل، أيضاً.
ومع ذلك، هذه دلالة واحدة في حقل يفيض بدلالات كثيرة. فقد يقول قائل: إن معارضي “الترحّم“ ينتمون إلى شريحة أقرب إلى القاع، بالمعنى التعليمي والثقافي، لذا لا يُعتد بهم. ويبدو، للوهلة الأولى، أن كلاماً كهذا يرضي الكثيرين.
والمفاجأة غير السارّة، هنا، أن الفرق بين شريحة من هؤلاء أقرب إلى القاع، وشريحة أقرب إلى قمة الهرم التعليمي والثقافي، وتعتنق الأيديولوجيا نفسها، يتمثل في الدرجة لا في النوع، فالجوهر واحد، أما الاختلاف ففي لغة التعبير، ولعبة السياسة والكياسة. وإذا كان ثمة من فضل للدواعش فيتمثل في حقيقة تمرّدهم، على المكشوف، بالقول والفعل، على لعبة السياسة والكياسة.
وليت هذه نهاية الأحزان، في الواقع، فثمة ما لا يحصى من الناس العاديين، الذين يصعب وصفهم بالمتأسلمين، بالمعنى الحزبي للكلمة، وهؤلاء لن يجدوا غضاضة في الموافقة، عن طيب قلب، ونزعة سلمية خالصة، على ضرورة التمييز بين “المسلم“ و“غير المسلم“. وبهذا المعنى، وفيه، تكتمل قومنة الهوية الدينية، على غرار اليهودية، لتقفل عائدة إلى ما كانت عليه قبل ميلاد الأزمنة الحديثة.
لا يتجلى الجوهر الحقيقي لكل أيديولوجيا، في الكون، إلا في ما تُطلق من استيهامات، وتستدعي من أخيلة، وتُحرّض على تحيّزات، لدى الأقل كفاءة في فنون السياسة والكياسة من عامّة الناس. وقد أصبح من الممكن، في عالم اليوم، بفضل الإنترنت، والتلفزيون، والهواتف الذكية، تعميم وتسويق الكثير مما ينتمي إلى القرون الوسطى، بوصفه ثقافة مشتركة لملايين الناس في مناطق جغرافية مختلفة، وفي لحظة واحدة من الزمن.
وهذا جديد، تماماً، في تاريخ الإنسان. وبقدر ما يعنينا الأمر، لم يسبق قبل الإنترنت، والفضائيات، أن كان كلام الفقهاء هو نفسه كلام عامة الناس في كل مكان آخر. فقد عاش كبار هؤلاء في المراكز السياسية والإدارية، قرب السلطة المركزية، على مدار قرون، ومع انعدام وسائل التواصل والاتصال، وتفشي الأمية، لم يتمكنوا من تعميم أفكارهم على نطاق واسع.
وهذه، على أي حال، فرضية إرنست غيلنر في معرض تفسير تفشي وصعود الأصولية في العالمين العربي والإسلامي. تكلّم غيلنر عن مناهج التعليم المركزية، والطباعة، والمواصلات، ولو أمهلته الحياة عقداً آخر من الزمن ليرى عن كثب طفرة الإنترنت والفضائيات لما تردد في إضافة هذه وتلك إلى رأس القائمة.
بيد أن فرضية كهذه تستدعي مزيداً من التأمل. فالمراكز السياسية والإدارية، حتى في الزمن الإمبراطوري، لم تكن واحدة وموّحدة، بل تعددت بتعدد السلطنات، والولايات، والأقاليم، وكان هذا من مصادر ومُحرّضات تعددية التأويلات الفقهية في الحقل الديني نفسه، ناهيك عن حقيقة أن الخلافات السياسية والمذهبية بين كيانات متناحرة أحياناً، ومختلفة في كل الأحوال، تركت بصمة دائمة على مر القرون.
ولكن الطفرة النفطية معطوفة على تقدّم تكنولوجي غير مسبوق، غيّرت هذا كله، لا من حيث إمكانية الوصول إلى أبعد نقطة في الأرض، ومخاطبة الملايين في وقت واحد وحسب، بل ومن حيث نجاح الوهابية (مطعّمة بعناصر حركية إخوانية ومن شبه القارّة الهندية)، في الصعود من هامش محلي ضيّق في تاريخ النسق العربي ـ الإسلامي، إلى قوّة فاعلة ومُقررة في الحقل الديني العربي والإسلامي، الذي فقد مراكزه التقليدية، وخصوصياته المحلية، وتعولم.
هذا لا يعني، بالضرورة، أن المراكز التقليدية، والخصوصيات المحلية، في بلدان عربية وإسلامية مختلفة، كانت محصّنة، تماماً، ضد الصحوة الوهابية المُسلّحة بسلطة دولة ومال لا تأكله النيران. فالواقع أكثر تعقيداً من هذا بكثير، خاصة وأن تدجين المراكز، وتهشيم الخصوصيات، نجم عن، وترافق مع، توظيف الهويات الدينية كجزء من أسلحة الحرب الباردة، كما نجم عن، وترافق مع، تعثر وانهيار مشاريع قومية نهضوية أفاق الناس منها، في الحواضر، على كوابيس.
ومع هذا كله في الذهن، يصعب تجاهل دلالات من نوع أن الهبوط بالسجال العام إلى مستوى جواز “الترحّم“ على شخص ما يدل في جانب منه على قدر من التمركز على الذات لا يمكن أن يبلغ حداً كهذا دون إحساس فادح بقلق ينتاب الهوية وصاحبها. فكلاهما يعيش في عالم يبدو فيه على الهامش، وكلاهما تُهدده حقائق الحياة اليومية، في زمن يعيش فيه عالة عليه، ويشكو فيه ومنه كما يليق بضحية لن يرضيها أكثر من تصفية الحساب مع العالم.
فما قيمة عالمٍ في الفلك والفيزياء والرياضيات مقارنة بمؤمن في مخيم جباليا، وما قيمة البنت عهد التميمي، التي أصبحت أيقونة وطنية، مقارنة بمُحجّبة في تنزانيا؟ إذا كان في أممية كهذه، واستعلاء كهذا، بعض ما يُنجب إحساسٌ فادحٌ بقلق يعصف بالهوية وصاحبها من عزاء، فإن فيه ما يبرر الكلام عن العزاء، ضماد الجرح النرجسي، بوصفة حيلة دفاعية، عصبية وعُصابية، خاسرة لم، ولن، ولا تنجب سوى العدمية والعنف.
فمَنْ لا يصح “الترحّم“ عليه، يصح قتله، نظرياً على الأقل، أو بالحد الأدنى الاكتفاء بكراهيته، وفي الحالتين لا يُغض النظر عن التداعيات الكارثية للقتل والكراهية وحسب، بل ويُحتفى بهما كدليل على صحة الإيمان. وهل فعلت داعش غير هذا؟
khaderhas1@hotmail.com
*
إقرأ أيضاً:
سـتيفن هـوكنغ.. المُعاق الذي غزا العالم بعِلمه