العلاقة بين الغرب والشرق، كما يقول الخبير الاقتصادي د. حازم الببلاوي «ليست مجرد همّ يشغلنا وحدنا، بل إنه يشغل الغرب ايضاً».
وكما نبحث نحن عن تعريف متبلور لهوية العالم العربي، يبحث الغربيون، ومعهم الشرقيون كذلك، عن تعريف محدد للغرب. فتاريخ أوروبا والولايات المتحدة زاخر بالانجازات والاخفاقات، والسلبيات والإيجابيات والصفحات المظلمة والمشرقة. الغرب هو فكر اليونان وسياسة الرومان والحروب الصليبية، والاستعمار. هو الرأسمالية والاشتراكية والفاشية، هو الثورة الصناعية والمطبعة والآلات والكهرباء، والكمبيوتر والانترنت والثورة العلمية والعقلانية والحروب العالمية والاقليمية. إن القائمة طويلة، حتى أن أحد المفكرين، نورمان ديفيز davies وضع مؤخرا أكثر من عشرة تعريفات لأوروبا والغرب.
ولكن تظل الحضارة الغربية، في رأيي، متميزة بخيوط رفيعة، تميز بريطانيا عن اليابان والولايات المتحدة عن الهند والصين، واسبانيا عن.. كوريا الجنوبية!
صلة الغرب بنا أعمق بكثير مما نتصور.. وكما يلاحظ د. الببلاوي في محاضرته «نحن والغرب» ضمن حوارات الفكر العربي المعاصر عام 1999 في عمان بالأردن، فللغرب في الواقع تاريخان: تاريخ مدني وتاريخ ديني، فالغرب من جانب هو وريث الحضارة الإغريقية والرومانية وهذا هو تاريخه المدني. ولكن للغرب كذلك تاريخه المسيحي. وإذا كانت حضارات أوروبا الأولى قد تأثرت بالحضارة الفرعونية، فإن المسيحية كذلك ظهرت في العالم العربي ففي كلا الحالين يبدأ الغرب من الشرق.
قبل أن تنضج أوروبا ومعها الحضارة الغربية أمضت نحو الفي سنة في الحروب «ولم تكن حروبه مع الشرق سوى ملحق قصير نسبيا أضيف إلى سجله الطويل في الحروب الأوروبية والغربية.. وإذا كان القرن العشرون قد عرف ثلاث حروب عالمية، اثنتين ساخنتين وثالثة باردة فإنها حروب «عالمية»، بالاسم لكنها في الحقيقة حروب أوروبية أو غربية».
ولكن من جانب ثان فالكثير مما نعرفه عن الشرق، يلاحظ د.الببلاوي «قد بدأ في الغرب». فللغربيين جهود جبارة في مجال اكتشاف الحضارة الفرعونية وحضارات بلاد الشام وبلاد الرافدين وفي دراسة الحضارة الاسلامية.
“لم يحارب الشرق الغرب فيما يبدو بنفس النجاح الذي حارب فيه الغرب نفسه”,هذا ما لا نعيره الاهتمام الكافي. هذا ما يمكن استخلاصه من تحليل د. الببلاوي. فقد نجحت تجارة العبيد مثلا وازدهرت بين افريقيا والولايات المتحدة، ولكن الدعوة لإلغاء العبودية قد جاءت من هذه الدول الغربية نفسها المستفيدة من تجارة الرق بل ان الولايات المتحدة عرضت نفسها لحرب أهلية شرسة بسبب هذه الدعوة لالغاء العبودية.
واذا كانت بريطانيا والمانيا وفرنسا موطن نمو الثورة الصناعية والرأسمالية وسوء معاملة الطبقة العاملة، فإن هذه البلدان بالذات هي التي تطورت فيها الأفكار النقابية والنظريات الاشتراكية بل وحتى التوجهات الفوضوية!
ويتناول الخبير الاقتصادي الكبير الصراع العربي ـ الاسرائيلي في معرض حديثه عن العلاقات العربية ـ الغربية، فيشيد بالصحوة التاريخية المعاصرة في اسرائيل، وبظهور حركة تتكون من مجموعة من المؤرخين الذين اطلقوا على أنفسهم أو اطلق عليهم اسم «المؤرخين الجدد». وهم يحاولون «القاء الضوء على حقيقة الأساطير التي يرسمها التاريخ الرسمي لاسرائيل». أحد هؤلاء ويدعى «ايلان جرايلزامير» Greilsammer، أصدر عام 1998 كتابا بعنوان التاريخ الجديد لاسرائيل، ينتقد فيه بقوة، «المقولات التي تقوم عليها الدعاية الاسرائيلية حول الديموقراطية، والرغبة في السلام، وحقيقة الاشتراكية بل وشجاعة الجندي الاسرائيلي، واسطورة اسرائيل الضحية الضعيفة في وسط غابة من الذئاب، وحول حقيقة قبول اسرائيل لقرار التقسيم، ويعترف بمسؤولية اسرائيل عن الابادة والطرد للعرب والفلسطينيين». (النهضة العربية الثانية، مؤسسة الشومان، الأردن، 1990، ص32).
ولنا ان نتساءل في ضوء هذا النقد الذاتي الشجاع في المعسكر المضاد، هل نملك نفس الجرأة على تشخيص «أساطيرنا الدعائية».. في العالم العربي؟
وإن كنا نمتلك الجرأة، فهل نتملك حق الكتابة والنشر والوصول الى الجمهور؟
هذه في اعتقادي قضية لا علاقة لها مثلا بدعم الغرب والولايات المتحدة واللوبي الصهيوني لاسرائيل. انها قضية سياسية ثقافية عربية بحتة.
نصف قرن من الاخفاقات والانتكاسات والكوارث… لم تدرس حتى الآن! ولم تنعقد أي ندوة حرة حولها! تاريخ طوله 14 قرنا لا نمتلك حرية البحث فيه!
نحن مثلا على مشارف الذكرى الأربعين لنكسة حزيران العام القادم، فهل نعقد ندوة كبرى بهذه المناسبة؟ وهل ستقال كل الحقائق وتنشر كل الوثائق؟ مشكلتنا للأسف لا تقف عند «أساطيرنا الدعائية» في المجال السياسي. ففي كل ركن من حياتنا وتراثنا وتاريخنا وواقعنا قضية لا يحق لنا البحث عنها والخوض فيها!
نقطة أخرى يتطرق اليها د. حازم الببلاوي في محاضرته تستحق التوقف الطويل. لقد نجح الاسرائيليون، كما يقول، في التلاعب بالوعي الغربي، فإذا بالصراع العربي الاسرائيلي يحمل في طياته مواجهة ضمنية بين الشرق والغرب، واذا باسرائيل هي المدافعة عن مصالح الغرب. ولكن لماذا نجحوا؟
ان المشكلة اليهودية، كما يلاحظ د. الببلاوي، هي بالأساس مشكلة مع أوروبا في الغرب، حيث ان تاريخ اليهود كله هو تاريخ الاضطهاد والطرد والتعذيب والابادة في اوروبا المسيحية. ولكن اليهود تعاملوا بذكاء مع هذا الواقع، فماذا فعلوا؟
يقول د.الببلاوي: «لم يحاولوا ان يجدوا الحل في المواجهة أو الصراع مع الغرب، بل حاولوا ـ مع الاحتفاظ بهويتهم ـ تأكيد عدم التناقض مع الغرب بل والادعاء بمشاركتهم في صنع ثقافته. ولعل آخر الصيحات هنا هي محاولة سلب هذه الثقافة الاوروبية من اهلها ونسبتها الى اليهود. فحتى وقت غير بعيد كان المفكرون الغربيون يصفون اصول ثقافتهم بأنها اغريقية ـ رومانية ـ مسيحية، واذا بنا نجد في السنوات الاخيرة سيلا من الكتابات يشير الى الجذور اليهودية ـ المسيحية لهذه الحضارة Judeo ـ Christian»! (ص34)
وقد يكون بعض هذا صحيحا، ولكن لليهود عموما عطاء لا ينكر ضمن اطار الحضارة الغربية في سائر ميادين الفلسفة والفكر والفنون والبحث والعلم والاختراع، يدعم اقوالهم ويعزز مكانتهم. ولو كان لنا نفس العدد من العباقرة والمفكرين والباحثين لكان الوضع مختلفا! ولكننا نعرف جميعا واقع البحث العلمي في بلدان العالم العربي، وكذلك ما تعانيه العقول المفكرة والمتحررة من ضغوط وملاحقة.
ثم ان اليهود ليسوا شركاء فكر وثقافة فحسب، بالنسبة للغرب. بل وكذلك تنسيق سياسي شامل وتعاطف مع القيم الغربية وتبني لها، من خلال الطوائف اليهودية في معظم مناطق العالم، ومن واقع السياسة الاسرائيلية اثناء الحرب الباردة وبعد انتهائها. ونحن نعرف كذلك في هذا المجال كم من اخطاء سياسية فادحة ارتكبناها، وكم من مراهنات حمقاء تحمسنا لنا منذ عام 1948!
فلا ينبغي على الاطلاق ان نلوم الغربيين واليهود على ما بينهم من تفاهم سياسي ووئام حضاري، بل ان نلوم انفسنا!
وهذا ما اكده د.حازم الببلاوي في كلمته الختامية تعليقا على المداخلات. احدى هذه المداخلات مثلا، اشارت الى «ان تربيتنا في الوطن العربي ـ للاسف الشديد ـ تربية تتجه نحو الماضي اكثر من المستقبل، ونحو التقليد اكثر من الابداع، ونحو تعزيز الاستكانة والانصياع اكثر من بناء الطاقات والانعتاق، ونحو التلقين والحظ اكثر من التفكير والاكتشاف، انها في جوهرها تربية تقليدية ومحافظة، وما نريد للمستقبل هو تربية تجديدية وتقدمية». (ص46)
ان نقطة البدء ـ كما اعتقد واصر ـ كما قال د.الببلاوي، «هي الديموقراطية، ونحن لم نتعلم الديموقراطية بدرجة كافية، على الرغم مما نثيره من ضوضاء في حديثنا عنها. كل سلوكنا يقوم على المجتمع الابوي، ونتوقع من الآخرين ان يقوموا بما نحب ان نقوم به. ليت الحكام يعطوننا قليلا من الحرية، وليتهم يبدأون بأنفسهم»!
هذا عن الحكام.. ماذا عن الناس؟