قرأت، قبل أيام، تقريراً عالمياً حول الجامعات في العالم، مع تصنيف تدريجي للجامعات، طبقاً لرقيها التعليمي والعلمي وإسهامها في الأبحاث الجديدة الإبداعية التي تضيف إضافة حقيقية للموضوع.
كانت من إسرائيل ثلاث جامعات، وفي مواقع متقدمة: الجامعة العبرية، “التخنيون” (جامعة علمية)، وجامعة تل أبيب.
فتشت في جامعات العرب، فلم أجدها في القائمة، وحزنت إلى حد البكاء، ثم فتشت عن شيء انشغل به، حتى أنسى الموضوع.
لو كنا في عهد القومية الحماسية، لقلنا إن الغرب تحت “التأثير الصهيوني”، ولذلك “يستثني” أو “يستبعد” أو “يعاقب” الجامعة العربية لكونها جامعة عربية. ولكن هذا الكلام السخيف والأهوج والسطحي لم يعد مقبولا، وبدلاً من أن نكذب على أنفسنا علينا كعرب أن نبحث في واقعنا في شجاعة وموًضوعية وقول الحقيقة مهما تكن الحقيقة مُرّة كالعلقم.
الجامعات لا تزدهر في ظل أنظمة دكتاتورية قمعية، ولا تزدهر في ظل نظام الحزب الواحد والدكتاتور الواحد. والجامعات لا تزدهر حيث يعرف كل باحث أنه من غير الممكن القيام بأي بحث فيه حتى تلميحات انتقادية ضد النظام!
هل يتصور عاقل أنه في ظل نظام صدام حسين، كان بإمكان باحث اقتصادي أن ينتقد السياسة الاقتصادية للنظام؟ هل في ظل النظام البعثي في سورية بإمكان باحث اقتصادي أن ينتقد سياسة التصنيع في سورية؟ هل في ظل النظام اليمني بإمكان باحث أن يكشف السرقات والفساد في جهاز الدولة؟ هل في ظل النظام المصري، يمكن لباحث أن يكشف أرباح الطغمة المالية من خصخصة القطاع العالم؟ هل يمكن لباحث عربي، داخل الدول العربية، أن يفضح القمع الإرهابي للأقليات (الأكراد في سورية، المسيحيون في مصر، الشيعة في السعودية، الخ..).
إن النظام الدكتاتوري الإرهابي ذا اللون الواحد، يحاول بالقمع أن يجعل هذا اللون الواحد لون الشعب كله، لون البلاد كلها، وهناك نظام بكامله من الرئيس حتى أصغر رجل مخابرات، يعمل على عدم “الشذوذ” عن الخط العام. حيث تنعدم الديمقراطية وينعدم الحوار، وينعدم التعايش، وتنعدم المعارضة العلنية المشروعة، من المؤكد أن الجامعات تحت المراقبة الدائمة للمخابرات ولزبانية الحزب الحاكم. والحقيقة أن الأستاذ الجامعي ليس طليقاً أن يقول ما يفكر به أمام زميله، فمن يضمن له أن زميله “الدكتور” ليس ضابط مباحث في الوقت نفسه؟؟
لماذا مئات الأكاديميين العرب في الخارج، يبدعون ويقدمون إسهامات ممتازة عالمياً، في العلوم الاجتماعية والعلوم الدقيقة، بينما الأكاديميون في الأوطان العربية كأنما هم مكمومو الأفواه، يدفعهم الخوف إلى الصمت إلى اللامبالاة. ويتحولون من أساتذة جامعيين إلى “مدرسين” على الطريقة التقليدية.
هل النظام الذي يخنق أنفاس الشعب كله، يمكن أن يعطي فسحة حقيقية من الحرية لأساتذة الجامعات؟ هل بإمكان أستاذ جامعي من أنصار المجتمع المدني أن يبوح بكل أفكاره في أبحاث أكاديمية وينشرها في وطنه؟
أحياناً نستمع إلى ندوات في الفضائيات العربية بمشاركة أكاديميين عرب يعيشون في فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وكذلك أكاديميون من الدول العربية. إن كل مستمع يحس بالفرق الشاسع بين من يتكلم متحرراً من الخوف ومن يتكلم مخصياً من نظام القمع والإرهاب في دنيا العرب؟
بودي أن أقول لأمتنا العربية من المحيط إلى الخليج إن في جامعات إسرائيل أساتذة يهود يؤيدون الحق الفلسطيني ويؤلفون الكتب العظيمة في هذا المجال، ولا يُطردون من وظائفهم. الدكتور ايلان بابي أصدر كتاباً عن “التطهير العرقي في فلسطين” هو في اعتقادي أشمل وأشجع كتاب حول الموضوع. هاجموه، شتموه، والبعض قاطعه، ولكن بقي أستاذاً جامعيا، وطبعاً لم يقتلوه!
كان في إسرائيل بروفسور في الكيمياء وذو سمعة عالمية، هو المرحوم يسرائيل شاحاك. وضع العديد من الكتب حول العنصرية ضد الفلسطينيين في إسرائيل، بل وعرّى الأيديولوجية الصهيونية كلها، وكتب دراسات تتهم بالعنصرية الدين اليهودي نفسه، ناقشوه، هاجموه، أساءوا له، ولكن لم يقتلوه، ولم تبعثه الحكومة الإسرائيلية إلى غياهب السجون!
إنني أقول، بأعلى صوتي، إن العرب الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، أكثر حرية في التعبير والعمل السياسي، من الأخوة العرب، في كل الدول العربية على الإطلاق. ولا نمدح إسرائيل بل نعتبر أن حقنا في الحرية والتعبير والفعل هو حق طبيعي غير مشروط بشيء.
في ظل الديمقراطية تزدهر العلوم جميعاً، وتزدهر المبادرات، فكرياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وصناعياً وزراعياً. هل صدفة أن إسرائيل أرقى اقتصادياً، أيضاً، من كل الدول العربية؟
ولكن لنعد إلى البحث العلمي في الجامعات. إن الأنظمة تقوم برقابة هستيرية ضد الجامعات وأساتذة الجامعات في الدول الديكتاتورية. والأساتذة الشجعان، الأبطال، الذين بقولون ما يعتقدون أنه صحيح علمياً يقبعون الآن في السجون “القومية الاشتراكية” تحت نظام البعث الدكتاتوري في سوربة. ولحسن الحظ، فإن شبكات الانترنيت تعطينا أسماءهم التي تثير فينا الاعتزاز والجلال وتعزز فينا الأمل، بأن ليل الدكتاتورية سوف يسقط وهؤلاء الأبطال سوف يخرجون من السجون.
ليس البحث العلمي الجامعي، فقط، مشلولاً، ومخنوقاً. هل بإمكان الأدباء والصحفيين في العالم العربي أن يقولوا كل الحقيقة؟ إن طباعة الكتب في كل الدول الراقية ليست عليها “رقابة” إطلاقاً. أما في العالم العربي فهناك رقابة “حكومية” وهناك رقابة “دينية”. إن الرقابة “الدينية” تبدو أكثر شراسة وأكثر تحريضاً. وكلنا نذكر أن شاباً متطرفاً دينياً حاول اغتيال نجيب محفوظ، وفي المحكمة اعترف بأنه لم يقرأ أي كتاب لنجيب محفوظ!!!
النظام السياسي الدكتاتوري هو رأس الأفعى في مقاومة الديمقراطية وحقوق الإنسان، في شل حرية الصحافة.في قمع حركات المجتمع المدني، في قمع النضال النسائي الباسل للمساواة، في قمع الأقليات الدينية والقومية. إن النظام السياسي ليس قابلاً للتغيير انتخابياً وسلمياً، وهو يعتقد أنه باقٍ إلى الأبد، وله الحق في التوريث!
وفي ظل النظام الدكتاتوري وغياب الديمقراطية الحقة والتعددية الحقة وشرعية الاختلاف وشرعية المعارضة، يصبح النظام من لون واحد، كالببغاوات، ويصبح الرئيس صنماً مقدساً، ويصبح كل موظف في موقعه رئيساً صغيراً.
هل في ظل هذا المناخ المشبع بالتطرف والخوف والإرهاب، هل في ظل هذا المناخ حيث يخاف كل إنسان من الآخرين فقد يكونون جواسيس للمخابرات، بالإمكان أن يزدهر شيء ما؟ السياسة جامدة والثقافة مخنوقة، والأحزاب مشلولة، والصحافة مدجنة، ويحق للشعب أن يتكلم بصوتٍ عالٍ فقط عندما يهتف للرئيس القائد الفذ!
إن خلاص التعليم الجامعي في الدول العربية ليس قضية منفصلة عن بقية القضايا، بل قضية مرتبطة بكل القضايا. ولسنا بحاجة إلى جهد خارق للوصول إلى النتيجة الأساسية: إسقاط الدكتاتورية، إسقاط نظام الحزب الواحد، وإشاعة الديمقراطية وحرية التفكير والتنظيم والتعبير، وحرية المرأة، وحرية العقيدة وحرية الإبداع، وتداول السلطة سلمياً والانفتاح على العالم، تجارة وثقافة وعلوماً وخبرات- هذا، وهذا فقط يعيد عالمنا العربي جزءاً من العالم.
إن أمتنا التي أنجبت الفارابي وابن رشد وابن خلدون وألوف العلماء، قادرة أن تنجب آخرين. أمتنا ليست عاقراً، ولكن يجب أولاً أن تتخلص من الأنظمة الدكتاتورية والظلامية التي مزقت الأمة وقطعت الروابط الحضارية والثقافية لأمتنا، مما أعطى للأصولية الإرهابية أن تزدهر وللغزاة الأجانب أن يفتكوا بأمتنا ويهينوها وينهبوا ثرواتها.
إننا بحاجة إلى صياغة حلم قومي شامل- ثقافي، حضاري، اقتصادي، سياسي، تعليمي، والقتال لتحقيق هذا الحلم بعد سقوط الطغيان الدموي.
عندئذٍ سوف يزدهر التعليم الجامعي والثقافة. عندئذٍ سوف تصبح الشمس والقمر أجمل، فوق أرضنا العربية! عندئذٍ يملأ ورد المبادرة والإبداع أرضنا العربية الخضراء.
salim_jubran@yahoo.com
الناصرة
ً