تمثل رسالة بن لادن الأخيرة التي أشاعتها واذاعتها الميديا العالمية مشروعا حضاريا مضادا للحضارة الحديثة ولقيمها الكونية والإنسانية. فالاطروحات الجهادية التي بثها زعيم القاعدة تنفي نفيا القيم التي تناضل من اجلها البشرية وهي العقلانية والديمقراطية والعلمانية والمساواة بين الجنسين وبين جميع الأجناس واحترام حقوق الإنسان والاعتراف بحقوق الأقليات الدينية والقومية. والغريب أن هذه الرسائل الهاذية لا تزال قادرة على التأثير على العد يد من الشرائح في عالمنا العربي وعلى اللعب بانفعالاتها وإثارة غرائزها السادية والمازوشية.
والسبب في ذلك هو أن النخب الغربية اعتبرت هجمات سبتمبر مناسبة للمراجعة والتأمل واستخلاص الدروس والعبر، فأخذت تشكك في مسلماتها وتسائل قناعاتها وتعيد النظر في أطروحاتها بحثا عن الخلل وتوقا إلى إيجاد حلول لتناقضاتها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي قد تكون سببا في أحداث 11 سمبتمبر2001. ولهذا السبب نظمت الندوات العلمية والتأمت المؤتمرات التي حاولت تفكيك الفاجعة فدرست وحللت وأعملت العقل لمقاربة اللاعقل ولتفهمه.
أما الوعي العربي الإسلامي فقد استبطن هذا الحدث كعادته بشكل فصامي . إذ لا تزال الثنائيات الفصامية تهيمن على التصورات العامة والتمثلات السائدة في عالمنا العربي.
وهذه الثنائيات,التي لا تزال تعيق إدراكنا الموضوعي للواقع وتجعلنا نهلل ونكبر للجرائم الإرهابية هي:
ثنائية الشرق والغرب
الخير المطلق والشر المطلق
الإسلام والديانات الأخرى
البطل والضحية.
بل إن العديد من المثقفين العرب يعتقدون إلى يومنا هذا أن هذا العمل الإجرامي مؤامرة من صنع وتدبير المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، من أجل إيجاد المبررات لشن الحرب على الإسلام وللاستحواذ على بترول المسلمين! بينما اعتبر البعض الآخر “غزوة مانهاتن” “نصر من الله وفتح قريب”.
وفي هذه المناسبة الأليمة لا بد أن نؤكد على بعض المسلمات:
لماذا ندين الإرهاب؟
أصبح لفظ الإرهاب يستقطب اهتمام العالم ويعني هذا اللفظ لغويا إدخال الخوف أو الرعب في النفوس من جراء تعنيف مادي وهو تعنيف ينتهك حقوق الأفراد والجماعات.
ومهما تعددت اليوم المصطلحات والمفاهيم التي تحاول تحديد هذه الظاهرة ومهما تراوحت التسميات المتداولة بين مقاومة وجهاد واستشهاد وفداء فان الإرهاب يعرف أساسا لا بنوعية القضية التي يهدف إليها، ونبلها أوعدالتها، بل من خلال الطرق المستعملة التي وقع اختيارها من طرف المنفذين والتي تستهدف غالبا المدنيين الأبرياء.
يقول الكاتب ولتير بن يمين “ليس لدى ما أقول سأعرض الوقائع وأشير إليها فحسب”:
– يتميز الإرهاب بتبخيس حرمة البشر وكرامتهم لأنه يشيّئ الإنسان ويختزله إلى مجرد وسيلة للوصول إلى هدف معين، بينما يظل الإنسان في نظرنا قيمة القيم. فالاستراتيجة الإرهابية تنفي الأخلاق نفيا. فهي متحللة من أبسط الضوابط المعيارية وتبيح لنفسها استخدام كل الوسائل حتى أكثرها بربرية لتحقيق أغراضها ومصالحها؟ وهي غالبا ما تبتز حكومات ذات تقاليد ديمقراطية تكن لمواطنيها الاحترام وتقدر حقهم في الحياة وتحسب ألف حساب لأرائهم ولأصواتهم، بينما يظل الأفراد بالنسبة لها مجرد رعايا ليست لهم اية قيمة.
وهي في بعض الأحيان ليست لها غائيات واضحة المعالم بل تهدف أساسا إلى التشفي والثأر الهمجي والتخريب العبثي.
-ينتهك الإرهاب كل الشرائع السماوية. فالقرآن الكريم مثلا ينهى عن قتل نفس واحدة ظلما وعدوانا وقد شبه هذه الجريمة بجريمة قتل الإنسانية جمعاء. قال تعالى “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”.
وهو كذلك يمنع اخذ البريء بجريرة المجرم ” ولا تزر وازرة وزر أخرى”. ومهما كانت الظروف والملابسات، فالقيم و الثوابت الكونية يجب أن تبقى متعالية على الأحداث الظرفية وهو ما يخلصنا من دائرة النسبوية المضللة.
– من جهة أخرى، تبين اليوم بأن “الحرب على الإرهاب” ليست حربا للدفاع عن الديمقراطية من الإرهاب، وإنما حربا إرهابية على الديمقراطية، وعلى حريات المواطن، وضد شبكات الحماية الاجتماعية. ويدخل في هذا الإطار القوانين والإجراءات الأمنية المشددة التي استطاعت إدارة الرئيس جورج بوش تمريرها في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأميركية، وذلك تحت عنوان التصدي للنشاطات والمجموعات الإرهابية وتجفيف منابعها . وقد أدت هذه الإجراءات إلى التخلي عن بعض الضمانات القانونية والدستورية، والتنازل عن بعض الحريات العامة والفردية الأساسية، لصالح اعتبارات الأمن والمصالح الوطنية للدولة. كما أدت الحرب على الإرهاب في العالم العربي الذي لا يبدع إلا في العنف السافر إلى تشريع وتبرير ممارسات قديمة – جديدة منافية للآدمية تتجسد في الاعتقالات الاعتباطية والتعذيب الوحشي.
-كما بات من الواضح أيضا أن الإرهاب هذا الحدث–الصورة حسب تعريف عالم الاجتماع جان بوديار يلعب دورا أساسيا في “مجتمع المشهد” الذي يطمس الحاجيات والتناقضات الرئيسية ويروض الأفراد حيث يحمل لهم التضليل الإعلامي رسالة واحدة وهي ضرورة التضحية في سبيل امن الدولة وتبني أهدافها، وذلك بإخماد النضالات الاجتماعية من جهة وبإهدار الأموال الطائلة التي يتم سلبها يوميا من عرق وأفواه الشعوب لإنفاقها في مجالات غير منتجة وهي الحرب على الإرهاب. وهنا لا يختلف اثنان أن ما حصدته مجتمعاتنا بعد سنوات من القتل والتفجير هوالمزيد من الخيبة والتفكك والانحطاط، ويبدو لكل ذي عين أن هذه الطريق غير قادرة على الوصول إلى الأهداف ولا إلى الحقوق، بل عجزت حتى عن تعديل توازن القوى في هذا الاتجاه، هذا من جهة. ومن جهة ثانية أججت إستراتجية “النحر والانتحار” حرب الثقافات وصراع الديانات وكراهية الآخر المختلف.
ومن هذا الأساس، يبدو بصفة واضحة أن الأعمال الإرهابية لا جدوى منها للحركة التقدمية. وهي تشكل أحد الأسباب الرئيسة لفشل مشاريع الإصلاح، ولقتل الحياة المدنية وعسكرتها وتمزيق أواصر المجتمعات وتبديد الطاقات وفرض واقع عام ووحيد، هوواقع العنف والعنف المضاد، برغم أن الكثيرين لا تغيب عن أذهانهم حقيقة لا يطاولها الشك بأن التاريخ الإنساني لم يسجل سابقة تقول بأن الإرهاب والأعمال التخريبية والترويع والتخويف بكل أشكاله وأدواته، قد حقق أهدافا أ ونال مراده.
وفي بعض الحالات , غالبا ما تكون العمليات الإرهابية نتيجة اختراق أواستفزاز بوليسي لتحويل الأنظار وصرفها عن الاستحقاقات التاريخية ولتأبيد دولة الاستثناء وحالات الطوارئ كما بين ذلك الكاتب الايطالي جيفراندوسنقنتي المنتمي إلى “أممية مبدعي الأوضاع ” في كتابه الشهير:
“Véritables rapports sur les dernières chances de sauver le capitalisme en Italie.”
ahikbal@yahoo.fr
* جامعية تونسية
في ذكرى 11 سبتمبر: العقل واللاعقل
تعليقي على العنوان فقط
11 سبتمبر هو اللاعقل