إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
كان يعرف كلَّ لبنان، وكلُّ لبنان يعرفه.
قد تكون هذه ميزة طبيعية لمواطن لبناني، لو اننا كنا نعيش في زمن طبيعي! إلا أننا، ومنذ عام 1975، نعيش انقسامات أهلية ومناطقيّة وطائفيّة ومذهبية، فتصبح عندها ميِّزة من يعرف لبنان كله، ومن يعرفه كل لبنان، تفاضلية بامتياز. ميّزة لا تتوفر في الكثير من اللبنانيين. إذ انه يمكن إيجاد من يعرفه لبنان كله، إلا أنه يعيش في نطاق جغرافي وسياسي ضيق، وهو لا يعرف بالضرورة كل لبنان، والعكس صحيح.
إنه ببساطة “سمير حميد بيك فرنجيه”، “الإنسان الفرد“، البيك الذي تحول من “الاحمر” الى “الابيض“، تَحَوُّل يختصر اختمارَ تجاربه السياسية والفكرية والثقافية! غادرنا راضيا عن كل تلك التجارب التي لم ينكر انتماؤه الى أي منها، ولا أُبَوَُّتُه لأي وثيقة، او “مانيفست” او بيان سياسي.
إنه “البيك” النبيل، الذي لم يطلب يوما شيئا لنفسه، ولم يعمل على إحاطة نفسه بـ“جوقة” منتفعين ووصوليين ومنتهزي فرص. تعاطى السياسةَ بأخلاق النبلاء، فكان نبيلا بين السياسيين، وعلى حد ما وصفه صديقه محمد حسين شمس الدين بأنه “قيمة أخلاقية“.
قَلَّما اجتمعت في شخصية واحدة، كما اجتمعت في شخصية “البيك”، تناقضاتُ القوة والوداعة، الصلابة والمرونة، الثبات في الموقف والتواضع والعلم المستفيض، دماثةُ خلق النبلاء وما يعجز عن وصفه من لم يتعرف اليه.
مُطلِقُ ثقافةَ الحِوار والوَصل يوم كان لبنان “كانتونات” ، مُجَدِّد في “الحزب التقدمي الاشتراكي”، مؤسس “للمؤتمر الدائم للحوار اللبناني”، مؤسس “للقاء قرنة شهوان”، استجابةً لنداء المطارنة الموارنة الذي أسّسَ لاستقلال لبنان الثاني من هيمنة نظام الوصاية السورية. اطلقَ شرارةَ “ثورة الارز”. انتُخَب نائبا ورئيسا لـ”المجلس الوطني لقوى 14 آذار”. مُطلِق “نداء بيروت ـ دمشق، دمشق ـ بيروت”.
داعية حوار وسلام، حمل قوى 14 آذار حتى الرمق الاخير، وهو على فراش المرض قال لي: “إنني بصدد إعداد مطالعة عن قوى 14آذار، أين اخفقت وأين أصابت، هذا هو الوقت الملائم بعد ان تخلى الجميع عن الثورة، ليبحثوا عن التسويات الفردية والشخصية“.
سمير فرنجيه غاب تاركا إرثا من الوثائق والنداءات، منارةً لعارفيه وللذين لم يُقَدَّر لهم ان يتعرفوا اليه، منارةً في الوطنية والترفع.
لعل أسوأ تجربة في حياةِ فرنجيه كانت انتخابه نائبا. تجربة لم يُقَدَّر لها ان تؤتي ثمارا لان المجلس النيابي كان خلال ولاية فرنجيه النيابية في خبر التعطيل. لم اسمع “البيك” يوما يحدثني عن نيابته!
كانت النيابة محطة، في حياة سمير فرنجيه. لم يتوقف عندها، بل كانت السياسة تعنيه اكثر، وكانت همّا يتآكله، يستولد الافكار، يجترح المبادرات يبتكر الحلول، لا يدوِّر زوايا، بل يأتيك من حيث لا تتوقع. يقاربُ السياسةَ من مداخل السلام والاعتراف بالآخر المختلف.
قبل ان يدخل “حزب الله” في عالم النسيان قال لي “لقد انتهى الحزب ويجب العمل على ايجاد الحاضنة التي ستعمل على “لمّ شمل البلد“.
لقد فاتت الطوائف، كل بدورها، في مغامرات التسلط والاستقواء على مواطنيها. وكل هذه التجارب فشلت، وتجربة “حزب الله” ليست افضل من سواها، ومآلها الفشل. ومن هنا حكمَ على الحزب بالفشل، قبل اكثر من عشر سنوات، وكان بصدد العمل على مبادرة وطنية تحمل اكثر من عنوان في مضمونها، وأهم عناوينها: “أي لبنان نريد، وما هو معنى لبنان، وأي دور له في محيط بلغ التطور فيه مداه، بحيث كان لبنان يفقد يوميا ميزة من الميزات التي رافقت نشأته”. فكتب سمير فرنجيه في دور لبنان المختبر الذي يعيش فيه مواطنون مسلمون ومسيحيون يتقاسمون السلطة وفق القانون والدستور، وهذا من اهم معانيه. وان لبنان يُصلِحُ كتجربةٍ تُعمَّم في مواجهة “الاسلاموفوبيا” في الغرب، بحيث يقدم نموذجا عن “العيش معا“، فضلا عن الدور الذي يمكن للبنان ان يضطلع به في مشروع “سلام على ضفتي المتوسط” .
كم نحن في حاجة اليوم الى رؤيوية البيك!
كم نحن في حاجة اليوم الى مبادراته!
كم نحن في حاجة اليوم الى نبيل يتعاطى السياسة بقيم اخلاقية لا ميكيافلية!