ترددت كثيراً في كتابة هذه الكلمات.
كلمات لعل الكثيرين والكثيرات في الجانبين العربي والإسرائيلي يترددون في النطق بها. رغم إقتناعي أن أنفسهم وهن تهمس بها.
صوت الأغلبية عادة ما يكون صامتاً.
تتابع، تراقب، تلتفت حولها، تريد حياة آمنة، كريمة، عادلة. تريد أن تحيا ومَن تحب بسلام. وحبذا لو تركوها وشأنها. وتصمت.
وفي مقابل صمتها، ترتفع في الجانبين العربي والإسرائيلي الأصوات المُطّبلة للحروب، عالية، زاعقة، غاضبة، تنفخ في النار، تؤجج معها الكراهية والحقد.
تقول لنا صباح مساء: “إياكم والنسيان. يكرهوننا. نكرههم. فلنصر على الكراهية”.
وأنا تعبت من الكراهية.
أنا لا أكره.
قلت أني ترددت في كتابة هذه الكلمات.
كنت دوماً ارغب في كتابتها. لكني كنت أتراجع، أقول لنفسي، “ليس هذا وقت الحديث”، واحذرها، “ستفتحين على نفسك جبهة جديدة. ألم تتعبي بعد؟ وسيلعنونك من جديد”.
بيد أني اليوم، في ذكرى النكبة/ تأسيس دولة إسرائيل التي مرت، قررت أن أكون صادقة. أقول كلماتي كما هي دون أن أراجعها.
قررت أن وقت هذا الحديث هو اليوم.
ولذا، سأبدأها بعبارة قد تكون مزعجة للكثيرين:“أنا لا أتعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منطق متحيز لجانب واحد”.
أتحيز للإنسان، نعم.
أتحيز للضعيف، نعم.
لكني في كل هذا أرى صراعاً له طرفان، وأرى الطرفين معاً. ثم أرى الإنسان فيهما.
وكي أكون صادقة، لا أرى في الإسرائيليين والإسرائيليات عدواً.
لا أريد لهم ولهن الأذى.
لا أريد لهن ولهم الدمار.
أريد لهم ولهن سلاماً وأماناً، تماماً كما أتمناه للفلسطينيين والفلسطينيات.
أرى الإنسان في الإسرائيليين والإسرائيليات. تماماً كما أرى الخوف الذي يسكنهم وهن.
لكني لا أتعامى عن أراضٍ اُنتزعت وتُنَتزع، وواقع احتلال جبار غير عادل، يقتل الإنسان الفلسطيني وكرامته، وينتهك أدميته في المناطق الفلسطينية.
تماماً كما لا اتغاضى عن التمييز الذي يتعرض له العرب الإسرائيليون، في دولة “لازال بعض الساسة فيها لم يقتنعوا بعد بأن على الدولة أن تخدم كل مواطنيها“ ، على حد تعبير رجل الأعمال الإسرائيلي ستيف فيرتهايمر.
هذا مهم.
ارى الجانبين معاً، الأثنين معاً. وانشد السلام والآمان لهما، معاً.
وكما أرى الجانبين، أتابع أيضاً النافخين في النار. لا أغمض عيني عن الكراهية التي يؤجج لها التطرف الديني اليهودي والإسلامي على حد سواء.
تلك الكراهية قائمة. ونموذجها المستوطنون وحماس في الجانبين. كلاهما يحتاج الآخر كي ترتفع رسالة الدمار التي يدعوان إليها. ينشرونها على الجانبين ناراً، تلتهم بألسنتها الإنسان فيهما.
رغم ذلك، أُكرر: أنا لا أكره.
لا أكره.
لا أكره الإسرائيليين والإسرائيليات. تماماً كما أني لا أريد دمار دولة إسرائيل.
وفي الوقت الذي ادافع فيه عن حق الفلسطينيين والفلسطينيات في إنشاء دولة توفر لهم الاستقلال والأمان والرفاه، وأرفض سياسية الاستيطان الممنهجة التي تنسف السلام من جذوره، ادرك ايضاً أن اكثر الأصوات المعارضة لسياسية الاستيطان إسرائيلية .
أكثر الأصوات المعارضة لسياسية الاستيطان تنبع من داخل إسرائيل نفسها.
وأن اكثرها دفاعاً عن حقوق الفلسطينيين منظماتٌ إسرائيلية، على رأسها منظمة السلام الآن الإسرائيلية. نقف أمام ما تفعله في سبيل تسوية عادلة ونشعر بالخزي من جعجعتنا الصوتية.
رؤيتي هذه تجعلني أتعامل مع هذا الصراع بصورة مختلفة.
تضع الإنسان في لبه، فلسطينياً كان أو إسرائيلياً.
أتجاوز الحكومات وابحث عن الإنسان، عن الإنسان فينا، في العربي، الفلسطيني، الإسرائيلي.
وأمد يدي له، أحمل غصن زيتون، لا خنجر.
ثم أتحيز لهذا الإنسان، أياً كان.
أتحيز للطفل الفلسطيني والإسرائيلي.
للطفلة اليهودية المسلمة والمسيحية…. والهويات عديدة.
لو نزعنا الهوية عنهما، لرأينا “طفل وطفلة”= إنسان.
تسألاني، عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، لم قررت أن أكتب هذه الكلمات اليوم؟
لأني قرأت كتاباً. أعطته لي صديقة عزيزة.
أكملت قراءته قبل أيام. إلتهمته في الواقع إلتهاماً.
عنوانه “لن أكره”. نشرته دار نشر كندية عام 2011، وُترجم إلى عشرين لغة منها العربية، والعبرية والألمانية والإيطالية والصينية والإندونيسية.
كتبه طبيب من قطاع غزة. د. عزالدين أبو العيش.
طبيب شب في مخيم جباليا بقطاع غزة، ورغم طاحونة الفقر التي اجبرته على العمل وهو يدرس، تفوق في دراسته، وأصبح طبيباً في مجال الوراثة والإخصاب، وعمل في مستشفيات إسرائيلية في مجال اختصاصه.
كان حلقة وصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
جسر.
يؤمن بأن السلام لا يتحقق بالكلمات والأماني الطيبة. بل بالتواصل والمواجهة الصريحة ثم التعايش اليومي.
لا يجامل عندما يتحدث عن واقع الاحتلال.
لا يجامل، لا يداهن، لكنه لا يكره.
كان يخاطب الإنسان فيهم وهن.
ولذا كان لحديثه وقع على آذان الإسرائيليين.
ثم بدأ يحمل المرضى من الجانب الفلسطيني إلى الجانب الإسرائيلي، ليعالجهم أطباء إسرائيليون يؤمنون مثله بالإنسان الذي في غيرهم.
نفس هؤلاء الأطباء هم الذي تكبدوا المشاق مع السلطات الإسرائيلية كي يستخرجوا للدكتور أبو العيش تصاريح العمل والدخول إلى إسرائيل.
إلى أن أنهار العالم من حوله.
في 16 يناير 2009 في هجوم إسرائيلي على قطاع غزة، دمرت قذيفتان جزء من منزله وقتلت ثلاث من بناته (من ست بنات وولدين)، بيسام في الواحدة والعشرين من عمرها، ميار في الخامسة عشرة من عمرها، وآية في الرابعة عشره من عمرها.
غيره كان سيكره. وهل يمكن أن نلومه إن فعل؟
لكنه لم يفعل.
لم يفعل.
لم يكره. بل كان أكثر تصميماً.
خرج من هذه المحنة مصمماً على رسالته: “لن أكره”.
هو “لا يكره الإنسان. بل يكره فعل هذا الإنسان“.
كان قادراً على الغفران، وفي الوقت ذاته يردد “هذا لا يعني أن لا نعمل من أجل تصحيح واقع هذه المظالم”.
وبدلاً من أن يجتر فقده في ذخيرة حية للحقد والكراهية، حولها إلى طاقة إيجابية، أسس منظمة إحياءاً لذكرى بناته الثلاث، تقدم منحاً دراسية للمتفوقات الفلسطينيات والعربيات. بدلاً من الكراهية، وفر مستقبلاً للألاف من الفتيات.
كتابه جعلني افكر في صمتي.
في الواقع جعلني أخجل من صمتي.
قلت لنفسي، رغم ما حدث له وجد الشجاعة كي ينطق بتلك العبارة القصيرة “لن أكره”.
قصيرة لكنها تحوى الكون بأسره حباً وضياء.
ولذا أرددها أنا الأخرى من بعده.
“لن أكره”.
ثم اطرح السؤال، ألم يحن الوقت كي ننشأ حركة سلام مشتركة من الجانبين العربي والإسرائيلي، تتجاوز “الأمنيات والابتسامات” إلى “الفعل المشترك، الذي يقرأ التاريخ بمنظور الجانبين، ثم لا يتغاضى عن الآلام والجروح القديمة”؟
حركة سلام مشتركة تضغط على حكوماتنا، كي ننهي هذا الصراع الذي يقتل الإنسان فينا كل يوم.
فعل مشترك يفتح لنا آفاق مستقبل، وأمل.
ألم يحن الوقت لذلك؟
كم من الدماء يجب أن تسيل إلى أن نتوصل إلى قناعة أن العنف لا يولد إلا عنفاً، وأن الكراهية لا تنبت إلا عنفاً.
وأن “العين بالعين، والعالم يصبح أعمى”. على حد تعبير المهاتما غاندي.
أقول هذا وأنا أعرف أن الأصوات سترتفع في وجهي من جديد، تلعنني من جديد، وتصر: “إياكم والنسيان. يكرهوننا. نكرههم. فلنصر على الكراهية”.
لكني قررت أن اكون صادقة، وأقولها لكما كما أؤمن بها: أنا لا أكره، بل أحب.
كاتبة يمنية- سويسرا
في ذكرى “النكبة”، تأسيس دولة إسرائيل: “لن أكره”
بس تقرر إسرائيل حدودها بنحكي