مايكل يونغ: مَن هو الأمير فريد شهاب، وما هي أهمية أوراقه الخاصة؟
جيفري كرم: شغل الأمير فريد شهاب منصب المدير العام للمديرية العامة للأمن العام اللبناني في الفترة بين 1948 و1958، ويُعرف باسم “أبو الأمن العام”. كان هذا الجهاز أوّل وكالة مخابراتية في لبنان، وتبيّن أنّ سبب وجودها هو إبقاء المسؤولين الحكوميين على دراية كاملة بالتهديدات التي تلوح في أفق الأمن القومي. وبعدما تولّى إدارة الجهاز لمدّة عشر سنوات، تمّ تعيين شهاب سفيراً للبنان في العديد من البلدان، بما فيها غانا ونيجيريا وتونس وقبرص والكاميرون.
وثائقه الخاصة مهمّة لأسباب عدّة. أوّلاً وقبل كل شيء، وكما ذكرت في مقال نُشر مؤخراً في صحيفة “ديلي ستار” اللبنانية، فإنّها توفّر إطلالة مهمّة على العمل الداخلي لأهم الأجهزة الأمنية اللبنانية والتي كانت الأكثر كفاءة خلال السنوات الأولى من الحرب الباردة.
ثانياً، إنّها مصدر لايقدّر بثمن لفهم دور لبنان كمركز للمشاحنات الإقليمية والعالمية، كما أنّها تساعد في تفسير سبب حبك بعض المؤامرات والتمرّدات العسكرية في حانات الفنادق المختلفة، بما في ذلك حانة فندق “سان جورج”، ومواقع أخرى.
ثالثاً، تتبع الوثائق بطرق مختلفة التطوّرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتخلّف في لبنان في الفترة التي سبقت الاستقلال في العام 1943، وأدّت إلى اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975.
يونغ: ما هي الأفكار الرئيسة التي اكتشفتمونها في أوراق شهاب؟ وما كان هاجسه كمدير للأمن العام؟
كرم: بصفته أول مدير للمخابرات في لبنان في ذلك الوقت، ركّز شهاب على أمور عدّة. على سبيل المثال، بحث في دور ونمو الخلايا الشيوعية والقومية السريّة في الأوساط المختلفة، سواء كانت عسكرية أو أكاديمية أو أي مكان آخر. وهناك قيمة أخرى مهمّة مرتبطة بالصلات بين الأقليات في لبنان، مثل الجاليتَيْن الكردية والأرمنية، ودول أخرى في العالم العربي والشرق الأوسط ككل وأوروبا. كانت لشهاب أيضاً شبكة من المُخبرين تراقب عن كثب الانقلابات العسكرية المُحتملة في لبنان وسورية والأردن والعراق وغيرها.
من حيث ما تسمّيه “هاجساً”، من المهم ملاحظة أنّ جميع مدراء المخابرات عادة ما يكونون مصابين بجنون الارتياب، ويركّزون على تجنّب المفاجآت التي يكرهونها، فيما يبحثون باستمرار عن التحذيرات المسبقة ومؤشرات المشاكل في المستقبل. المفاجأة الناجحة، سواءً كانت هجوماً أو ببساطة عدم القدرة على فهم أنّ تطوراً مهماً يمكن أن يتكشّف ويكون له تأثير كبير، هي بالتأكيد الهاجس الأوّل لأي مديرمخابراتي. تأتي درجة من الوسوسة مع طبيعة الوظيفة، كما أنّ تشديد شهاب على كيفية سعي الجماعات الشيوعية وتلك المؤيدة لها للطعن في الأنظمة الحالية، يظهر على نطاق واسع في الوثائق. كذلك، فإنّ الفكرة المتكرّرة هي تركيزه على ما اعتبره تهديد الحركات القومية العربية “الراديكالية” والعناصر الشيوعية، خصوصاً في صفوف الشرطة والقوات المسلحة.
يونغ: تغطي الأوراق فترة حاسمة من العالم العربي مابعد الحرب، ولاسيما في الخمسينيات والستينيات. فماذا تُخبروننا عن لبنان في تلك السنوات؟
كرم: هناك بعض الأمور المهمّة. أوّلاً، من الواضح جداً أنّ أوراق شهاب تعكس التوازن الدقيق للقوى بين النخب السياسية اللبنانية. وفي الواقع، تركّز تحليلات شهاب على التنافس بين الطوائف والتحالفات متعدّدة الطوائف، فضلاً عن الحقيقة المهمّة المتمثلة في أنّ العديد من القادة اللبنانيين، بمَنْ فيهم القادة السياسيون والدينيون، قد استغلّوا التوتّرات الطائفية لمصالحهم الشخصية.
ثانياً، كان لبنان بالفعل على مفترق طرق المنافسة الإمبريالية والمنافسات الإقليمية. وعلى وجه التحديد، عوّل العديد من القادة والمجموعات في البلاد على الدعم الأجنبي لتمكين أنفسهم محلياً. وتماشياً مع روايات عدّة صدرت عن لبنان في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، يشير تحليل شهاب إلى أنّ الأحداث في الشرق الأوسط لطالما فاقمت المشاكل الداخلية القائمة بين مختلف النخب السياسية اللبنانية.
يونغ: بصفتكم باحثاً، ما أكثر ما وجدتموه في أوراقه إمتاعاً أو قيمة بالنسبة إلى عملكم؟
كرم: هذا سؤال صعب. فهناك العديد من النتائج المثيرة للاهتمام في الأوراق. إذ أنّه من المثير الحصول على لقطة “محلية” في فترة حرجة للغاية في تاريخ لبنان والشرق الأوسط. على وجه التحديد، لقد وجدت أربعة أفكار قيّمة:
أولاً، في حين كان شهاب رسمياً مديراً للأمن العام بين العاميْن 1948 و1958، إلا أنّ دوره كمدير للمخابرات لم يبدأ في العام 1948 ولم ينته في العام 1958. ففي الحقيقة، قدّم تقارير تحليلية شاملة، معظمها على شكل ملاحظات شخصية وانطباعات من عدد من المصادر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، والأهم من ذلك، استمرّ في تلقي تقارير مخابراتية عالية المستوى بعد أيلول/سبتمبر من العام 1958، عندما غادر منصبه.
لدينا القليل من الأدلة لفهم سبب مواصلة شهاب في تلقي مثل هذه المعلومات بعد استقالته. ومع ذلك، هناك افتراض عملي واحد هو أنّ دوره الفعّال في بناء الأمن العام وتجنيد العشرات من الضباط خلال فترة ولايته، سمح له بالبقاء على اطلاع كامل على المعلومات المهمّة بعدما ترك منصبه. إذ قام شهاب ببناء علاقات عملية واسعة، وغالباً ما كانت شخصية، مع الضباط، وكما سبق أن قلت، كانت لديه شبكات من المخبرين في لبنان والشرق الأوسط. ويبدو من المعقول أنّ هذه الشبكات لم تنظر إلى استقالته الرسمية كنهاية لدوره كمدير مخابرات.
ثانياً، إنّ مراقبة شهاب عن كثب للخلايا الشيوعية والقومية، ولاسيما في أوساط الأقليات الكردية والأرمنية في لبنان والدول العربية الأخرى، وعلاقاتها مع الدول الأجنبية، مفصّلة ومثيرة للاهتمام. مع ذلك، ومن زاوية الحرب الباردة، فإنّ مراقبة شهاب للجماعات التي لديها أي صلات بالاتحاد السوفياتي، لم تجعله موالياً للولايات المتحدة تلقائياً. لقد كان متعاطفاً مع الغرب واستفاد من علاقات وثيقة مع رؤساء المخابرات البريطانية وضباط المخابرات الأميركية، غير أنّه كان مرتاباً بشأن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط وما إذا كان الأميركيون قد أدركوا حقيقة التعقيدات الاجتماعية والسياسية في المنطقة وشعوبها ونضالاتها.
ثالثاً، تقدّم أوراق شهاب دليلاً قوياً على أنّ العمل المخابراتي الجيّد، وخصوصاً تجميع وتحليل أجزاء متفرقة من المعلومات ونشرها في الوقت المناسب لصانعي السياسات، يتطلب دائماً وجود قادة مستعدين للإصغاء. وكما رؤساء المخابرات الآخرين، كانت تقارير شهاب تُكتب في كثير من الأحيان بطريقة تضمن عدم خسارة تركيز المتلقي المقصود والتزامه بقراءة الأقسام المختلفة.
رابعاً، أهم النتائج التي توصّل إليها بحثي هي أنّ تحليلات شهاب المفصّلة تشير بوضوح إلى أنّ المسؤولين العسكريين العرب وضباط المخابرات ليسوا مجرّد وكلاء تابعين في “لعبة الأمم” بين القوى الإقليمية والعالمية. صحيح أن مذكرات وتقارير العديد من ضباط المخابرات الغربيين في الشرق الأوسط، بما في ذلك عميلَيْ وكالة المخابرات المركزية ويلبر كرين إيفلاند ومايلز كوبلاند، تشير إلى أنّ العديد من الدبلوماسيين العرب والضباط العسكريين ومسؤولي المخابرات كان لديهم تفويض محدود.
لكن أوراق شهاب ترسم صورة مختلفة، إذ تشير إلى أنّ ضباط المخابرات العربية والدبلوماسيين، على حدّ سواء، كانوا يتابعون على نحو وثيق الخلايا الثورية والمعادية للثورة في جيوشهم، ولاسيّما الضباط. كما ركّزوا على تحليل علامات السخط داخل جماعات الأقليات، وكذلك العلاقات المشتبه بها بين السكان المحليين وبين الدبلوماسيين الغربيين ومسؤولي المخابرات.
في الواقع، وثائق شهاب تبتعد عن تلك السجلات التي تتمحور حول الغرب بشكل كبير، والتي تتم الاستعانة بها عادةً للكتابة عن مواضيع المخابرات والأمن في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من وجود العديد من الثغرات في هذه الأوراق، يمكن للمرء حشد استنتاجات مهمّة لتكملة، وإلى حد ما، تحدي بعض الافتراضات القديمة في المؤلفات التي غالباً ما تكون مكتوبة بذهنية المستشرقين.
يونغ: هل ستكون هذه الأوراق متاحة لباحثين آخرين عبر الإنترنت؟
كرم: لطالما كانت الأوراق الخاصة متوافرة في أرشيف مركز الشرق الأوسط في كلية سانت أنطوني في جامعة أوكسفورد. في الواقع، أصدرت ابنة شهاب، يمنى عسيلي، وأحمد أصفهاني في العام 2007 كتاباً تم تحريره بناءً على هذه الأوراق، يحمل اسم “في خدمة الوطن: مختارات من الوثائق الخاصة للأمير فريد شهاب”. ومع ذلك، بدأ برنامج التاريخ والسياسة العامة في مركز ويلسون، بدعم من عسيلي، برقمنة المجموعة في العام 2016 لجعل هذه الوثائق متاحة للباحثين عبر الإنترنت. ويمكن للباحثين والقراء الفضوليين وأي شخص لديه إمكانية الوصول إلى الإنترنت تصفّح الوثائق واستكشاف المجموعة الضخمة بهذه الطريقة. وبصفتي باحثاً، أشيد بمركز ويلسون لإتاحة هذه الوثائق، وأنا مقتنع بأنّ المزيد من معاهد ومراكز الأبحاث ستستمرّ في رقمنة المجموعات المهمة للباحثين والقرّاء المهتمين.
*صورة المقال قدّمتها يمنى عسيلي، ابنة شهاب، لجيفري ج. كرم، من ألبومات عائلية شخصية.