جاءت خاتمة مقالة الثلاثاء الماضي على النحو التالي: “الأهبل من يعتقد أن القاعدة وأخواتها في العالم العربي تشتغل بجهودها الذاتية، إلا إذا صدقنا القرضاوي، و”الجزيرة”، وكل الكلام الفارغ عن الرأي والرأي الآخر”.
وقد فسّر البعض، هذا الكلام، باعتباره رفضاً لتعددية الآراء. وهذا غير صحيح. فتعددية الآراء قيمة لا يمكن التنازل عنها. ولم يكن من قبيل الصدفة، في الخاتمة، الربط بين القرضاوي، و”الجزيرة” القطرية، و”الكلام الفارغ عن الرأي والرأي الآخر”. فهنا بيت القصيد.
وهذا ما يمكن أن نفهمه بشكل أفضل، على خلفية كلام السيد محمود جبريل، رئيس الوزراء الليبي السابق، في حوارات يجريها مع “الحياة” اللندنية، وتنشرها الجريدة تباعاً. قال جبريل يوم أمس (الاثنين) إن السياسة الأميركية إزاء الثورة في ليبيا، اتسمت بازدواجية المعايير، فبرنامجها الحقيقي كان “دعم وصول الإخوان في مصر وليبيا وتونس على أمل أن يؤدي ذلك إلى احتواء الإرهاب والإرهابيين”. وقد تولى تنفيذ هذا البرنامج، والكلام لجبريل، “وكيلان إقليميان هما قطر وتركيا”.
بمعنى آخر، وبالتحليل الملموس، في زمان ومكان محددين، كان الكلام عن الرأي والرأي الآخر، هو الحق الذي يراد به باطل. فلا الثورات قامت من أجل الشريعة، ولا الإخوان كانوا في طليعتها، أو كانت العدالة الاجتماعية، جزءاً من همومهم السياسية والأيديولوجية.
المهم أنهم ركبوا موجتها. ولكن ذلك لم يحدث عن طريق الحجة، والمنطق، والإقناع، والاقتناع، بل بالمؤامرة، وبالتعاون مع الوكيلين الإقليميين للولايات المتحدة. فلنترك للمصريين والتونسيين والسوريين أمر ما يعرفونه عن خبايا التعاون، ولننتظر ما سيقولونه في قادم الأيام. يكفي، الآن، أن نعود إلى ما ذكره جبريل عن خفايا الدور القطري.
يقول: كان تيار الإسلام السياسي الحليف الأوّل للقطريين، وقد حاولوا فرض الأمير السابق للجماعة الإسلامية قائداً لثوار ليبيا، ورفضوا تجريد الميليشيات من السلاح بعد سقوط القذافي.
وقد أدت هيمنة السلاح، والكلام لجبريل: “إلى حرف مسار الثورة، وإطاحة نتائج الانتخابات النيابية، كما أدت إلى إقرار قانون العزل الذي تسبب في إقصاء الدولة لا النظام. ولفت إلى أن وجود 21 مليون قطعة سلاح في البلاد، وتزايد الاغتيالات والتفجيرات، ينذر بإغراق ليبيا في صراعات جهوية وقبلية مدمرة”.
ليبيا غرقت، بالفعل. ولنعد إلى ما يقوله السيد جبريل عن قرار تجريد الميليشيات من السلاح، الذي اتخذه، في حينها، بصفته رئيساً للوزراء: “خرجتُ في الساعة السابعة مساء، وأعلنتُ حل التشكيلات العسكرية، وكان معي 17 من قادة تلك التشكيلات على المنصة (من أصل 18 ميليشيا مسلحة). في اليوم التالي فوجئنا بقرار من المجلس الوطني الانتقالي بإلغاء قراري، وبنقل تبعية اللجنة الأمنية العليا من المكتب التنفيذي إلى المجلس. ترتب على هذا الأمر أن يوم 14 أيلول شهد أولى دعوات الفتنة، واتهام محمود جبريل بالعلمانية، واتهام التيار الوطني بأنهم علمانيون وينحرفون بالبلاد إلى الفسوق والفجور.”.
لا أدري، ولا أفهم، ما هي ما العلاقة بين تجريد ميليشيات من السلاح، في محاولة لإنشاء سلطة أمنية، مركزية، موّحدة، وبين العلمانية، والفسق والفجور. ولكن، على أية حال، هذه هي التهمة الجاهزة، التي يلصقها الوكلاء الإقليميون للولايات المتحدة بكل من يخالفهم الرأي، أو يُعطّل مشاريعهم.
وإذا أعدنا تصوير المشهد الليبي، استناداً إلى كلام جبريل، سنجد أن رئيس الأركان القطري يشتغل في طرابلس على تمكين بلحاج وجماعته، مادياً، بالمال والسلاح، والمناورات، بينما تشتغل “الجزيرة” في الدوحة على تمكينه، إعلامياً ومعنوياً، بفتاوى القرضاوي، ومقابلات مع إسلاميين لم يسمع بهم أحد من قبل، لكي يصبحوا نجوماً في السياسة، وتحليلات معلّقين يعرفون، مسبقاً، ما الذي يُقال ولا يُقال. وهذا كله باسم الرأي والرأي الآخر.
المهم أن ليبيا غرقت. والأهم، عشرة آلاف مرّة، والكلام لجبريل، أن هناك: “من يخطط لاستعادة مصر عن طريق ليبيا”، بمعنى تهريب السلاح والإرهابيين من ليبيا، التي ضاع فيها الأمن والأمان، إلى مصر.
ولا يحتاج الأمر إلى براعة في التفكير والتدبير لاكتشاف العلاقة بين محاول “استعادة مصر” من ناحية وبين الإرهاب في مصر المحروسة، من ناحية ثانية، إما لإسقاط النظام القائم، وإعادة حكم الإخوان، أو لتمكينهم من التفاوض، بورقة الإرهاب، على دور أفضل في المشهد السياسي المصري.
وتبقى، هنا، مسألة غالباً ما تغيب عن أعين الناظرين، وتتمثل في حقيقة أن مَن يريد تمكين الإسلاميين “المعتدلين”، لا يعادي، بالضرورة، الإسلاميين المتطرفين، بل يدعمهم لتأكيد ما تقوله العرب عن “الضد الذي يُظهر حسنه الضد”، فكلما ولغ المتطرفون، أكثر، في الدماء، أصبح المعتدلون أقرب إلى صورة الأم تيريزا، وأصبح مشروع تمكينهم أقل تكلفة، بل وحتى جزءاً من البطانة المفهومية، والأيديولوجية، والسياسية، لكل كلام محتمل عن الرأي والرأي الآخر.
المفارقة الأخيرة: لم تكن العلمانية، في يوم من الأيام، جزءاً من الرأي والرأي الآخر في العالم العربي، بل كانت وما تزال مطاردة ومطرودة، فلا محطة فضائية نطقت باسمها، ولا خزائن فُتحت لها، ولا أنظمة تبنتها، ولا جماعات رفعت السلاح باسمها، ولا رؤساء للأركان، وضباط للمخابرات، اشتغلوا على تمكينها. فهي تحضر كديكور، أحياناً، ومثل أكياس الملاكمة، لتدريب راكبي موجات الربيع على تسديد اللكمات، وتصبح لدى بعض العرب والعجم، في أحيان أخرى، مثل حائط المبكى، بذريعة أن في جينات العرب مضادات حيوية.
khaderhas1@hotmail.com
في جينات العرب مضادات حيوية..!!
تحليل رائع وموضوعي ومقنع لكاتب لبيب متابع يحسن التفكير.. بارك الله بقلمه ونوّر الله قرائه بطريقة تفكيره العقلانية المحايدة..