حينما ذهبنا إلى بيروت للدراسة الجامعية في مطلع سبعينات القرن الفائت، لفتت أنظارنا – ضمن أمور أخرى – الشعارات السياسية الكثيرة المكتوبة فوق جدران المباني واللافتات الخشبية والقماشية، وكان من بينها شعار يتصدر كل الحيطان واللافتات في المناطق ذات الكثافة السكانية السنّية. كان الشعار يقول ببساطة “ما بيصائب إلا صائب”، وترجمته هي أنه لا يصلح للحكم في لبنان إلا “صائب سلام”. وكان الأخير وقتها من أبرز رجالات الدولة و أحد أشهر من تعاقبوا على رئاسة الحكومة اللبنانية.
ذلك الشعار ظل على الدوام حاضرا في ذهني، خصوصا عند الكتابة عن الشأن السياسي الياباني. فقد ثبت من التجربة الطويلة لهذا البلد في حقبة ما بعد هزيمتها المرة في الحرب الكونية الثانية، أنه لا يصلح لحكم اليابان إلا حزبه العتيد الأعرق أي “الحزب الليبرالي الحر”. فهذا الأخير، رغم كل الإنقسامات والتجاذبات التي عصفت بأجنحته المختلفة، ولا سيما ما بين تياراته الشابه والعجوزة، ورغم كل الفضائح المالية التي لحقت برموزه الكبيرة، ورغم تبدل وجوهه القيادية بمعدلات زمنية سريعة، ظل يحكم اليابان دون إنقطاع منذ ظهوره على الساحة في عام 1955، وحتى عام 1993 الذي شهد خروجه من السلطة للمرة الأولى. لكن هذا الخروج لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما فشل الإئتلاف الحزبي المنافس له في إدارة البلاد، وقدم رئيسه “توميتشي موراياما” إستقالته من رئاسة الحكومة في غضون عام واحد، ليعود الليبراليون الأحرار مرة أخرى إلى السلطة.
أما المرة الثانية التي هــُزم فيها “الليبراليون الأحرار فكان في العام الماضي، حينما فاز عليهم فوزا ساحقا في الإنتخابات التشريعية التي أجريت في أغسطس من ذلك ذلك العام “حزب اليابان الديمقراطي” بقيادة “يوكيو هاتوياما” (63 عاما) الذي خلف “تارو آسو” كرئيس للوزراء على رأس حكومة إئتلافية من حزب اليابان الديمقراطي، والحزب الإشتراكي الديمقراطي وحزب ثالث صغير. لكن حكومة “هاتوياما” لم تستطع أيضا الصمود أكثر من عام، ليستقيل رئيسها في أوائل الشهر الجاري، مدشنا بذلك مرحلة جديدة من اللاإستقرار الإداري والسياسي، خصوصا وأن البلاد غيرت أربعة رؤساء حكومات خلال أربع سنوات. فمن بعد حقبة شبه طويلة وغير مسبوقة من الإستقرار في ظل رئيس الحكومة الأسبق، صاحب الكاريزما الشخصية والمواهب القيادية الفذة، “جونيتشيرو كايزومي” الذي حكم ما بين عامي 2001 و2006، تولى رئاسة الحكومة لمدة أقل من عام كل من “شينزو أبي”، و”ياسو فوكودا” و “تارو أسو” على التوالي.
والقاريء لتاريخ اليابان السياسي، وخصوصا ذلك المتعلق بحكوماتها المتعاقبة، سيكتشف أنه قد مرّ على هذا المنصب الرفيع منذ عام 1947 وحتى اليوم 30 شخصية سياسية، جُلـّها بطبيعة الحال من “الحزب الليبرالي الحر” كما أسلفنا. كما سيكتشف أنّ أطول رؤساء الوزراء بقاء في السلطة كان أيضا من الحزب الأخير. أما الملاحظة الأخرى الجديرة بالإهتمام فهي تقديم الساسة اليابانيين مصلحة أحزابهم على مصالحهم الشخصية، وذلك في ظاهرة معاكسة تماما لما يجري في العالم العربي والعالم الثالث. فالسيد هاتوياما فضـّل أن يتخلى عن منصبه الرفيع كرئيس للوزراء وزعيم لحزب اليابان الديمقراطي الحاكم قبل أنْ يحين الحادي عشر من يوليو، وهو موعد إنتخابات نصف مقاعد مجلس الشيوخ المكون من 242 مقعدا (هذا المجلس أقل صلاحيات من مجلس النواب، لكنه صار يلعب دورا هاما في إقرارالتشريعات، خصوصا حينما يتمتع الحزب الحاكم بأغلبية في مجلس النواب، ولا يتمتع بمثلها في مجلس الشيوخ)، وذلك خوفا من أن يؤدي تمسكه بالسلطة إلى هزيمة حزبه في تلك الإنتخابات، على خلفية تراجع شعبيته من 70 بالمئة إلى أقل من 20 بالمئة، بسبب نكثه بوعود إنتخابية سابقة حول نقل قاعدة “فوتينما” الأمريكية من جزيرة “أوكيناوا” (حيث يعيش 1 بالمئة فقط من سكان اليابان) إستجابة لمطالب سكانها، وإيجاد حل يتناغم مع رأي عموم اليابانيين حول تواجد 50 ألف جندي أمريكي فوق أراضيهم، ووعود أخرى ببدء حقبة سياسية مختلفة في تاريخ البلاد، ثم بسبب ضلوع الأمين العام لحزبه العجوز القوي “إيتشيرو أوزاوا” (67 عاما) في فضائح تمويلات سرية، هذا ناهيك عن إتهامات وُجهت إلى عدد من مساعديه بالحصول على أموال بطرق غير مشروعة لدعم حملته الإنتخابية في عام 2009 (برأ القضاء ساحة المتهمين، وخـَلـُص إلى أن “هاتوياما” لم يكن على علم بالأمر).
لقد قيل وكـُتب الكثير حول أسباب بروز “حزب اليابان الديمقراطي” وتمكنه من إنتزاع السلطة من “الحزب الليبرالي الحر” بعد هيمنة الأخير على مقادير الأمور لفترة دامت نحو نصف قرن. لكن أهم ما لفت نظر المراقبين هو أن الحزب الأول إستفاد كثيرا من أخطاء الحزب الثاني، بمعنى أنه لئن لم يسع إلى تبني سياسات مختلفة جذريا عن سياسات خصمه، ولا سيما فيما يتعلق بالروابط التاريخية مع الحليف الأمريكي، فإنه على الأقل حاول تجديد الدماء في الحياة السياسية اليابانية. ذلك التجديد الذي لطالما وعد به الليبرليون الأحرار ناخبيهم، لكن دون أن يطبقوه على أرض الواقع.
وهكذا، يمكن القول أن حظوظ الحزب الأعرق في اليابان بالعودة إلى السلطة في أية إنتخابات تشريعية قادمة تتوقف على الشخصية التي سوف تقودها، ومدى ملاءمتها للمرحلة، ومدى جاذبيتها في مواجهة “ناوتو كان” (64) زعيم “حزب اليابان الديمقراطي” / رئيس الحكومة المعين حديثا، والساعي إلى البقاء في السلطة فترة أطول من أسلافه، أي أكثر من عام.
ولعل أكثر ما يميـّز رئيس الحكومة الجديد عن كل أسلافه السابقين هو أنه لا ينتمي إلى إحدى العائلات الإقطاعية التي عادة ما تدخل عالم السياسة اليابانية من خلال الحصول على مقعد أو مقاعد برلمانية، ثم تورثها لأبنائها وأحفادها. فـ “ناوتو كان” المولود في أكتوبر 1946 في مدينة “أوبي” بمقاطعة “ياماغوتشي” لأب هو “هيساو كان” الذي كان يعمل مديرا لمصنع زجاج، والمتخرج في عام 1970 من معهد طوكيو للتكنولوجيا، مجازا في علوم الفيزياء التطبيقية، يـُدين في بروزه وصعوده إلى شيء واحد فقط هو: أنشطته وتحركاته المدنية وجهوده في تنظيم الجماهير للمطالبة بحلول سريعة لمشاكل الإسكان والرعاية الصحية والمساواة الجندرية والتلوث البيئي، ناهيك عن قيادته ذات مرة للحملة الإنتخابية للسيدة “فوساي إيتشيكاوا” المدافعة الصلبة عن حقوق المرأة اليابانية لدخول مجلس الشيوخ في عام 1974.
والرجل الذي بدأ حياته السياسية في السبعينات بثلاث محاولات فاشلة للحصول على مقعد نيابي في الأعوام 1976، و1977، و1979 ، ثم محاولة ناجحة في عام 1980 حينما ترشح في طوكيو عن حزب “إتحاد الإشتراكيين الديمقراطيين”، حافظ منذ التاريخ الأخير على مقعده البرلماني، لكن كممثل لأحزاب سياسية مختلفة، كما أنه تقلد وزارة الصحة والرعاية في عام 1996 في حكومة الليبراليين الأحرار الإئتلافية بقيادة رئيس الحكومة الراحل “روتاريو هاشيموتو”، ثم وزارة المالية منذ يناير 2010 في حكومة “يوكيو هاتوياما” المستقيلة. وحينما كان وزيرا للصحة، سمح ببيع الدم الملوث، فكان أن تسبب بقراره هذا في إصابة الكثير من اليابانيين بمرض الإيدز، الأمر الذي عرّض شعبيته وصورته للخطر، قبل أن تعود أسهمه وترتفع كنتيجة لقيامه بالإعتذار علنا لشعبه، ووصف ما فعله بالجريمة التي لن يغفرها لنفسه.
ومن المشاكل الأخرى التي واجهت الرجل وكادت أن تعصف به بعيدا إلى زوايا النسيان في الساحة السياسية، إتهامه ظلما في عام 2004 بالتهرب من دفع ما يجب عليه لحساب معاشات الإدخار. وهي التهمة التي أرجعتها وزارة الصحة والعمل والرعاية لاحقا إلى خطأ إداري.
وقد إختصر “ناوتو كان” ذات مرة مشكلته لجهة عدم صعوده إلى المنصب الأول في البلاد، في قوله أثناء مقابلة صحفية أجريت معه قبل سنوات: ” نا مو ناكو سوسهيكي مو كاني مو ناكو”، وترجمتها هي “لا إسم، ولا تنظيم، ولا مال”، وبعبارة أوضح أراد “كان” أن يقول أن من مثله من الأشخاص الذين لا يستندون إلى عائلات إرستقراطية، أو إلى تنظيمات حزبية قوية، أو إلى موارد مالية ضخمة، لا يستطيعون الصعود إلى القمة بسهولة. لكنه ها هو يصعد، ويدلل عمليا على عدم صواب مقولته، مؤكدا أنه بالعزيمة والإصرار والتاريخ النظيف، والسيرة العلمية الراقية، لا يوجد ما يحول دون صعود النجباء إلى هرم السلطة في اليابان أو سواها من دول آسيا ذات الأنظمة الديمقراطية الراسخة.
بقي أن نعلم أن رئيس الحكومة اليابانية الجديد هو من أشد المدافعين عن فكرة إضطلاع جيش الدفاع الياباني بدور خارجي يتلاءم مع قوة ومكانة بلاده العلمية والإقتصادية، على الأقل في إقليم شمال شرق آسيا والمحيط الباسيفيكي.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh
.
.
في اليابان أيضا.. “ما بيصائب إلا صائب”
نبيل موسى — nibamous@club-internet.fr
السيد المدني صاقب ـ بالقاف ـ كلمة فصيحة وهي في اللغة العربية تعني طابق.وقد خففت القاف باللهجة اللبنانية كما يحصل في اللهجات العربية عموماً فأصبحت همزة. وبالتالي فعبارة ما بيصائب الا صائب تعني انه لا يتطابق مع رئاسة الوزراء الا صائب سلام رحمه الله تحياتي