لا جديد في الكلام عن مشاكل النظام السياسي الفلسطيني. فالكلام فيه، وعنه، من أكثر الرياضات المحلية شعبية. وهي رياضة محافظة، كما النظام نفسه، بمعنى العجز عن توليد أفكار جديدة، فشغلها الشاغل هو العيش في راهن مقطوع الصلة بما مضى، أو ما سيأتي. شغلٌ مُكرر ومُعاد، وغير المُكرر والمُعاد منه سرعان ما يُكرر ويُعاد، حتى يجد جديد فيزيحه، ليُكرر ويُعاد.
جديدنا رواتب غزة، التي ينشغل ويشتغل بها وطنيون صادقون، وقنّاصة، وغاضبون، ومُحبطون، إلى حد تحوّلت معه، على أيدي هؤلاء، إلى “شغل“: ماذا يفعل فصيلكم، وما محله من الإعراب؟ يقول لك: نتظاهر، ونتكلّم عن مظلمة الرواتب، ولا تنسى، طبعاً، موقفنا من “صفقة القرن“، ودعوتنا المشفوعة بالبيانات لإنهاء “الانقسام“، ودفاعنا العنيد عن الوحدة الوطنية.
كلامٌ مُكرر ومُعاد، جديده الرواتب حتى يجد جديد. وهذا، كلّه، لا يعدو كونه ممارسة بلاغية، ومحاولة لتسجيل الحضور في سجّل الدوام الوطني. وكلتاهما لا تنجو من شبهة التثبيت العُصابي، والفلكلوري، على السياسة اليومية. فحق الموظفين في الحصول على رواتبهم، كما حق التظاهر باسمهم ونيابة عنهم، يتاخم حد بداهة لا تدانيها سوى بداهة أن شرطة تُفرّق المتظاهرين مُدانة. لا جدال في هذا.
بيد أن هذه، كلها، مجرّد أعراض. وإذا جاز للإفراد الركون إلى طمأنينة البداهة، فإن القوى السياسية بوصفها تمثل “عقلاً“ جمعياً، كائناً ما كان تعريفه، لا تملك رفاهية التصرّف على طريقة الأفراد، ولا الحق في فصل الأسباب عن النتائج، أو تجاهل المرض بدعوى تفاقم الأعراض. وإن صدق هذا على فصائل منظمة التحرير بشكل خاص، فإن فيه، أيضاً، ما يُسهم في تفسير حقيقة ما أصابها من وهن، وتراكم على “عقلها“ السياسي من شحوم.
ولنبتعد عن الآن، وهنا، في زيارة قصيرة إلى عقود طويلة سبقت. فآباء الحركة الوطنية، الذين وُلدوا قبل النكبة بعقد أو اثنين، عاشوا في طفولتهم، وتلمسوا عن كثب في سني شبابهم الأولى، الآثار الكارثية لثورة العام 1936، وما وسمها من صراعات حزبية وعائلية ومناطقية، أنهكت الكيان الاجتماعي، وكانت مقدمة لنكبة العام 1948، أي التجربة الرضيّة والتكوينية الأهم في كل ما سيكوّن وطنيتهم، ومخيالهم السياسي، في وقت لاحق، وخارطة للطريق.
وإذا شئت العثور على كلمة السر في الخارطة فيمكن اختزالها في مفهوم: “الدم الفلسطيني خط أحمر“، وما يتصل به من تداعيات بشأن معاني الإجماع، والتعددية الحزبية والأيديولوجية، والوحدة الوطنية، وحتى النزعة الحصرية “الشوفينية“، التي انطوت، أحياناً، على توجّس، يكاد يكون عضوياً، من نوايا الآخرين، وعلى إصرار لا يكل ولا يمل بشأن استقلالية القرار، ووحدانية التمثيل.
لم يكن الأمر مثالياً، بالضرورة، ولم ينجُ المفهوم نفسه من لطخة هنا أو هناك، ولكن أحداً لم يجادل في ما له من قيمة رمزية، ومكانة أخلاقية، ودلالة سياسية، في الوجدان الوطني، إلى حد جرى معه تلفيق معنى الوحدة الوطنية، الذي يعني في علوم السياسة وحدة المناطق، والطبقات، والطوائف الدينية، والإثنية، التي يتكوّن منها شعب ما، ليصبح في سياقه الفلسطيني مُرادفاً لوحدة الفصائل.
وقد تصدّعت القيمة الرمزية، والمكانة الأخلاقية، والدلالة السياسية، للمكوّن الأهم في الوطنية الفلسطينية، في صيف وشتاء العام 1983، عندما انتهك ما عرف بالمنشقين في حينها، خط الدم الأحمر، وشاركوا آل الأسد، في قصف مخيمات شعبهم في شمال لبنان. كانت تلك أوّل محاولة انقلابية. وكان الدفاع لا عن الحركة الوطنية وحسب، بل وعن معنى الوطنية، أيضاً، يستدعي تجريم المشاركين، وقياس دلالات ما فعلوا بالمعنى الرمزي، والأخلاقي، والسياسي، على مسطرة خط الدم الأحمر، لا على مفهوم تلفيقي للوحدة الوطنية.
لو حدث هذا لتفادينا انقلاباً ثانياً بعد 24 عاماً. ولأن هذا لم يحدث، ولأن الانقلابيين عادوا، أو أُعيدوا إلى صفوف الحركة الوطنية، بعد فشل المحاولة الانقلابية، ولم يُحاسبوا، لم يعد لمفهوم “الدم الفلسطيني خط أحمر“ ما كان له من قداسة وهيبة. وبهذا، ومنه، أصبحت “الوحدة الوطنية“ كينونة ميتافيزيقية، يصعب القبض على دلالتها الواقعية، أو حتى قيمتها العملية، مع ما لكل أشياء كهذه من آثار سلبية مباشرة على لغة السياسة ومفرداتها.
وهذا ما يتجلى، في الواقع، منذ انقلاب حماس، واستيلائها بالقوّة على قطاع غزة في العام 2007، وما نجم عنه في الحقل السياسي من إنشاء منظومة لغوية، وسياسية، ودلالية، تُعيد التذكير بالأسطورة الإغريقية، التي تقول إن حداداً وقاطع طريق يدعى بروكروست كان يمدد ضحاياه على سرير: إن كانوا أطول قص الساقين، وإن كانوا أقصر مطّهما، ليتناسب الطول، في الحالتين، مع السرير.
مثلا، لكي تبرهن الفصائل، وقد ارتفعت بنفسها إلى مرتبة الرقيب المحايد، والحارس الأمين للوحدة الوطنية، فعليها أن تمدد الفلسطيني على سريرها، لتقص من خطابه زوائد من نوع مفردة الانقلاب، المُنفّرة والفضائحية، وعليها أن تمط خطابه بمفردة من نوع الانقسام، الحيادية، شريطة اقترانها بحصره في صراع شبه عائلي بين فصيلين، وكأن فصائل المنظمة هبطت من كوكب آخر.
وما قيمة ودلالة الكارثة التي حلّت بغزة، وبالنظام السياسي؟ لا قيمة لهذا على سرير الفصائل، ولن تتجلى قيمته، ودلالته، إلا في سياق الدفاع عن معنى الوطنية نفسها، وقياس كل ما كان، وسوف يكون، على مسطرة “الدم خط أحمر“، فلا الوحدة الوطنية، على ما فيها من تلفيق، ولا مقاومة إسرائيل، على ما فيها من مغامرات باهظة، تكفيان لتجاهل خطايا الانقلاب. فكل ما لا يبدأ بالانقلاب، ولا ينتهي إليه، لا يُعوّل عليه.
khaderhas1@hotmail.com