توحي نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة بخطوةَ كبيرة إلى الأمام، باتجاه صون وحدة العراق وحمايته من مشاريع التقسيم إلى دويلات وإمارات. ونلمح في الأفق بداية انحسار الهويات المذهبية من المجال السياسي العراقي، وازدياد نفوذ القوى السياسية الداعية لدولة القانون والمواطنة.
-1-
فمنذ حوالي العامين، دعا المجلس الإسلامي الأعلى الذي يشكل طرفاً رئيساً في التحالف العراقي الحاكم، إلى تشكيل إقليم في جنوب العراق، وإقليم آخر مشابه في الوسط. فتصدَّت لهذه الدعوة آنذاك قوى سياسية من سائر الطيف السياسي العراقي، وطنية ديموقراطية وعلمانية، فصائل دينية من السنة والشيعة، وأوساط قريبة من المرجعية في النجف. فندت هذه القوى جميعها دوافع وخلفيات هذه المشاريع، السلطوية والنفطية. وحذرت من مآلاتها السياسية التي لا تعني في نهاية المطاف غير تصفية العراق كدولة وكيان. ونبهت إلى ما يترتب على هذه المشاريع من نتائج جيو سياسية خطيرة على المنطقة ككل، يمكن أن تفقدها توازنها بشكل كامل، وتحولها إلى ساحة صراعٍ إقليمي شامل ومدمر.
طبعاً في هذا السياق، علينا أن نتجنب كل التحليلات القومجية والطائفية التي تفترض أن الشيعة العراقيين الذين يشكلون أكثر من نصف عدد السكان، هم على أتم الاستعداد لأن يتحولوا إلى تابع إيراني لمجرد انتماء إيران إلى المذهب الشيعي، فمثل هذا التبسيط يعتبر تعسفاً فظاً يسيء إلى انتمائهم العربي، ويشوه مواقفهم الوطنية والقومية التاريخية منذ تأسيس العراق الحديث في 1920. ولذلك فقد هب عدد كبير من القادة الشيعة العراقيين، من فصائل سياسية مختلفة يناهضون بقوة قيام أقاليم في العراق على أساس ديني، وكان رئيس الوزراء الأمين العام لحزب الدعوة(نوري المالكي) على رأس هؤلاء.
وحتى الفصائل الكردية شعرت بخطورة مثل هذا الطرح الأقاليمي على أساس ديني في الجنوب، وتوجست من ما يترتب عليه من نتائج جيوسياسية خطرة على مستقبل الإقليم الكردي ذاته. فراحت هذه الفصائل تميل إلى الاعتدال والبراغماتية في خطابها السياسي، مظهرة قوة العلاقة الاستراتيجية والمستقبلية التي تربط بين الدولة العراقية والإقليم الكردي في الشمال. فاستوعبت هذه الفصائل مدى الخطورة التي يمكن أن تحيق بها من القوى الإقليمية إذا ما تفككت الدولة العراقية. وفي واقع الحال، لا نعتقد أن القادة الأكراد لا يرون مصالحهم السياسية في الأفق المنظور، أنها تكمن في بقائهم طرفاً فاعلأ في دولة عراقية موحدة، فليس من مصلحة إقليمهم أن يعيش حالة عزلة وحصار بين ايران وتركية في الشمال وكانتونات عراقية في الجنوب ذات ولاءات سياسية مختلفة.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الأحزاب السياسية السنية، فلم تغرِها هذه الدعوة الأقاليمية لكونها تمنح رخصة تشكيل إقليم سني في الموصل والأنبار وديالى. فالسنة العراقيون منذ بداية الأزمة العراقية كانوا يناهضون مشروع الفيديرالية ويدافعون عن دولة عراقية متماسكة. وموقفهم في العمق ينطلق من الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية، لأنهم سيكونون أكبر الخاسرين من تشكيل الأقاليم والكانتونات، وهم يعون تماماً مدى التهميش الذي سيلحق بهم على كل المستويات، فيما إذا توزعت الثروات العراقية بين الإقليم الشيعي في الجنوب والإقليم الكردي في الشمال.
وكذلك تجربة السنين الأربعة الماضية من الصراع على الهويات )تحت الوطنية( في العراق؛ لم تتوقف عند الصراع السني- الشيعي، بل تشعب هذا الأخير إلى صراعات على هويات أصغر ضمن المذهب الواحد، شيعية- شيعية وسنية- سنية، ومن ثم إلى صراعات على السلطة ضمن الحزب الديني الواحد، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الاستياء من الأحزاب الدينية والمذهبية عموماً لدى فئات واسعة من الشعب العراقي وخاصة بين الفئات الحديثة من الطبقة الوسطى.
وانطلاقا من حساب المصالح ، نعتقد أن بقاء العراق موحداً هو لصالح كل المكونات العراقية، شيعة وسنة وأكراداً وتركماناً ومسيحيين ويزيديين وصابئة. ولربما هذه المصلحة المشتركة لعبت دوراً كبيراً في تغير موقف الشعب العراقي في الانتخابات الأخيرة.
وإذا رصدنا المشهد العراقي خلال العام الماضي، نرى أن مجمل الأحداث السياسية الداخلية، لم تصب نتائجها في صالح القوى المذهبية المتطرفة. ففي المناطق السنية انهزمت منظمة القاعدة وباقي المنظمات المتطرفة بعد قيام مجالس الصحوات وإعلان تحالفها مع القوى الأمنية العراقية. وكذلك الحال في الجنوب، فقد شن رئيس الوزراء نوري المالكي حملات عسكرية منظمة للقضاء على حكم الميليشيات في كل من البصرة والناصرية والعمارة ومدينة الصدر.
وهذا بمجمله أدى إلى حصاد سياسي متواضع للقوى الدينية المتزمتة في أواخر كانون الثاني الماضي. فقد فشلت هذه القوى في جمع عشرين ألف توقيع لكي تتقدم بطلب قانوني لتشكيل إقليم الجنوب في البصرة، ثم جاءت الانتخابات الأخيرة لتكشف عن انحسار نفوذها وشعبيتها.
إن تراجع هذه القوى كان انعكاساً مباشراً لتجربة سلطوية مذهبية قامت على تحكم الميليشيات، والتمييز ضد الآخر، ونهب المال العام، وسرقة النفط، والمحسوبيات والولاءات الحزبية والعائلية والشخصية. ولجأت هذه الميليشيات إلى فرض قواعد اجتماعية متزمتة في السلوك والمأكل والملبس والمشرب. وصار يعتدى على النساء، ومنعت الأنترنت، وفُصلَ بين الجنسين في الجامعات، وأحرقت محال المشروبات الروحية وأغلقت صالونات الحلاقة النسائية، وأجبر السكان بالقوة على ممارسات حياتية أخرى ماضوية ومتخلفة.
انطلاقاً من هذه اللوحة الخلفية، التي أثارت نقمة شرائح واسعة من الشعب في الجنوب، حصد رئيس الوزراء نوري المالكي شعبيته ونفوذه في الانتخابات الأخيرة. وكان الكاسب الأكبر فيها قائمته (ائتلاف دولة القانون)، بينما تراجع مرشحو المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الفضيلة. وبعض الأحزاب الإسلامية الشيعية خسرت حوالي 90% من مقاعدها التي حصلت عليها في انتخابات مجالس المحافظات في عام 2005 بسبب سوء أدائها وفسادها في الإدارة المحلية.. ولم ينجو التيار الصدري من هذا الانحسار الواضح.
-2-
لقد أفرزت العملية الانتخابية عناصر جديدة إلى الساحة السياسية العراقية، فعادت بعض القوى والعائلات العشائرية التي راحت تشكل منافساً قوياً للأحزاب المذهبية وهذا ما لوحظ بقوة في مدينة الأنبار الذي كان التنافس فيها على أشده بين الحزب الإسلامي وهيئة علماء المسلمين ومجالس الصحوات، وكذلك رأينا هذا الفرز في بعض المناطق الشيعية كظاهرة (محمد هادي الحَبُّوبي) في كربلاء الذي تفوق على الشيرازيين والصدريين والمجلس الأعلى الإسلامي.
في كل الأحوال، فقد أعادت الانتخابات الأخيرة شيئاً من التوازن للعملية السياسية في العراق، وترافقت هذه العودة مع تناقص حدة الصراع السني- الشيعي. ونلمح في الأفق العراقي ازدياد نفوذ الخطاب السياسي الذي يدعو لتأسيس الدولة المدنية القائمة على الحق والقانون والمواطنة، الذي سيسهم بشكل رئيس في خروج الصراع المذهبي من المجال السياسي ليستقر بشكل اختلاف تعددي سلمي مشروع في مجال حرية العقائد والطقوس.. ولقد حصل هذا الخطاب على دعم عملي ملموس من المرجعية الشيعية في النجف، حين لم تدخل طرفاً في معركة الانتخابات الأخيرة، كظهير مساند لهذا الحزب الديني أو ذاك. وفي الواقع هذا السلوك يتوافق مع موقف السيد السيستاني من نظرية الحكم وشكل الدولة، وهو يرى ضمن هذا السياق أن “ولاية الفقيه غير واردة”. وهذا الموقف بحد ذاته يشكل خطوةً مرموقة على طريق توطيد الدولة المدنية في عالمنا العربي.
إن العراق يمر الآن، بمرحلة انتقالية معقدة ومحط أطماع دولية وإقليمية، ولكنه في الواقع تبين أنه لقمة من الصعب التهامها، وتجربة احتلاله لم تكن نزهة على الأميركيين. ولقد أعلن الرئيس الأميركي أوباما رسمياً قرار سحب القوات الأميركية في صيف 2010 . إن تقدم العراق وبقاؤه ككيان له وزنه في المنطقة لا يضمنه، غير توحده بكل مكوناته، وتغليب الوطني على المذهبي، وتأسيس الدولة المدنية الديموقراطية.
zahran39@gmail.com
كاتب سوري