حينما طرحنا موضوع عصمة الأنبياء عند الشيعة في مقال من جزئين، قلنا أن الهدف من ذلك هو معالجة الأوصاف غير البشرية، أو فوق البشرية، التي يسعى البعض لإلصاقها بفئة من البشر هم الأنبياء. وفي الواقع لم نجد من المعترضين على المقال والمحتجين على أفكاره – وكانوا في الغالب من رجال الدين ممن أوردوا ملاحظاتهم وانتقاداتهم كتابةً أو شفاهةً واستخدم البعض منهم عبارات قاسية – لم نجد من هؤلاء دليلا عقليّا أو نصيّا واحدا يفنّد ما قلنا به من أن الأنبياء غير معصومين وغير مصونين من الخطأ في جميع المسائل في الحياة، أي أننا لم نجد ما يثبت من خلال الدليل العقلي أو من خلال النص الديني أن النبي هو إنسان فوق بشري، باستثناء ما ينقله النبي عن الوحي، ومحتوى ذلك لم يكن بشريا وإنما سماويا، بينما بقية الأمور والمسائل المتعلقة بالحياة الطبيعية فقد كانت بشرية محضة.
لقد أراد البعض أن يدافع عن العصمة الشاملة المتعلقة بالوحي وبغير الوحي، لكنه لم يستطع أن يطرح دليلا عقليا أو نصيا واحدا على ما يدّعيه. وبالتالي نقول لهؤلاء بأنه لا يوجد دليل عقلي أو نصي يثبت ادعاءات العصمة التي تجعل النبي شخصية فوق بشرية، إنما هناك إشارة إلى نقل النبي إلى البشر ما يقوله الوحي، وبأن محتوى هذا النقل ليس بالهوى.
إن بعض المحتجين على ما ورد في مقال “الشيعة والعصمة” لا يريدون إلا لفهمهم التاريخي عن العصمة أن يسود، حتى لو تصادم هذا الفهم مع الواقع الحديث. فهذا البعض يريد، غصبا، أن يؤسلم الحداثة لا أن يعصرن الدين، وهو بذلك إنما يصر على أن يواجه واقعين يتسم بهما عصرنا الراهن: واقع تعدّد فهم النصوص (الدينية وغير الدينية)، وواقع تبدّل الحياة وتغيّرها ما أصبحت حياة حديثة عصرية بمفاهيمها ومادياتها ووسائلها. فلكي نضمن استمرار الدين في الحياة في ظل حداثتها وعصرنتها لابد من التأكيد على أهمية تنوّع فهم النصوص الدينية، ومنها الفهم المتعلق بالعصمة، وهذا لايعني نفي النص الديني التاريخي بل يعني إعادة فهمه لكي يعيش في الحاضر. لذلك، لابد من التأكيد على مسألة تنوع فهم النصوص في أن تتعايش مع تغيّرات الحياة، ومن له القدرة على طرح فهم ديني جديد يجاري تلك التغيّرات، هو الذي يستطيع أن يجعل الدين مهضوما في الحياة الحديثة، بينما من يريد لفهمه الديني التاريخي أن يتغلغل غصبا في الحياة الراهنة، سوف ينتهي إلى تشويه الدين وصد الناس عنه، وهو ما يجعل الدين ضعيفا أمام التحديات الجديدة وغير قادر على الإجابة على أسئلة الحياة الحديثة.
إن رجال الدين التقليديين التاريخيين الذي لا يرضون إلا بأن يسود فهمهم الديني القديم، هم في الواقع يرفضون التغيرات التي طرأت على الحياة وجعلتها حديثة، ويرفضون تعدد فهم النص الديني، لأنهم يعلمون بأنه إذ قدموا تنازلات في هذين الأمرين – التنوع والتغيير – سوف يفقدون السيطرة على أفهام الناس وعقولهم، ومن ثم ستضعف سيطرتهم على المجتمع. لذلك هم يرفضون التغيرات التي طالت المفاهيم بما جعلت الحياة تستقبل التعددية، غير أنهم يستفيدون من التغيرات التي طالت الوسائل ويستخدمونها تحت عنوانها استغلال منجزات الحداثة من أجل الدفاع عن فهمهم التاريخي وتثبيته في الواقع الحديث!.
إن الإنسان القديم، إنسان ما قبل العصر الحديث، استطاع بسهولة أن يهضم الدين الذي نزل في العصر القديم. وبما أن التحولات الحديثة جعلت الإنسان يسير نحو الحداثة ويعيش تحت ظلها، فإن هضم الدين القديم أصبح صعبا عليه ومناف للواقع ومشروطا بتغيير الفهم الديني ليكون هذا الفهم قادرا على العيش في الحياة الحديثة ومؤثرا في أفرادها. لذلك لابد من إعادة تفسير النصوص الدينية بحيث لا تتعارض مع أبرز المفاهيم الإنسانية المستندة إليها الحياة في العصر الراهن، وفي مقدمتها الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان الفرد. فالإنسان الحديث صاحب حقوق ولابد من تفسير ديني يوضح معنى أن الباري هو خالق هذا الإنسان الحديث وكذلك هو خالق الإنسان القديم. فهذا الإنسان الحديث يستند إلى مفهوم حقوق الإنسان، أي أنه إنسان محق يمتلك حقوقا لم يكن لها أي اعتبار في الحياة القديمة، وبالتالي يحق لهذا الإنسان أن يفهم الباري والدين والعبادة بطريقة مغايرة عن الإنسان القديم. وهذا ما يجعلنا ننتقد المفهوم القديم للتعبد ويحفزنا على إيجاد مفهوم حديث له استنادا إلى المنطلقات الأخلاقية التي لا تهدف إلى نفي الدين بل إلى تجديده.
إننا يجب ألاّ ننتظر من رجال الدين التقليديين المسيطرين على الشأن الديني التاريخي في المجتمع أي خطوة باتجاه تجديد الفهم الديني ما داموا غير حداثيين في جوانب الحياة العلمية المختلفة. وما الحديث عن وجود رجال دين مجدّدين يسيرون وفق نهج له صلة بالحياة الحديثة من دون تطوير بعض الأسس والعلوم، كعلم الكلام وعلم الفلسفة وغيرها، إلا كلام لا معنى له. فجهد رجل الدين لم يصب في إطار تغيير وتجديد الفهم الديني من أجل أن يتماشى مع “أسس” الحداثة والعصرنة، بل صب في إطار مسعى التوافق مع “ظروف” المرحلة الجديدة. وشتان الأمر ما بين الأسس وبين الظروف. فالفقهاء، على سبيل المثال، ينظّرون “لتجديد” وسائل التعبد، من صلاة وصيام وحج وغيرها، ليجعلوها تتوافق مع “ظروف” الحياة المتغيرة، لكنهم لا يؤسسون لتديّن جديد يستطيع الذوبان في الحياة الحديثة. بمعنى أن همّهم منصب على إيجاد قوانين فقهية تسهل طقوس التعبّد في ظروف مناخية وجغرافية وحياتية مختلفة، ومساهماتهم لا تستطيع أن تتعدى ذلك الأمر، في حين أنهم يبتعدون مسافات شاسعة عن محور ربط التعبّد ووسائله بالتغيرات التي حدثت في “أسس” الحياة، مثل النظرة إلى مفهوم الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. فلا علاقة للفقه الراهن بتغيّر النظرة الإنسانية تجاه تعدد طرق التديّن وتعدد طرق التقرب إلى الله، كما لا علاقة لهم بالقراءة التاريخية للدين ولحياة النبي والصحابة والتاريخ الإسلامي. فكل تلك بالنسبة إليهم مسلمّات وإيديولوجيات تاريخية من غير المسموح الإقتراب منها، ولو اقترب أي شخص من تلك المنطقة يكون قد مس منطقة محرمة، منطقة ينبني عليها أساس حياة المسلمين وفقههم وأخلاقهم وطرق عيشهم.
ولا بد هنا أن نشير ولو باختصار إلى اعتقاد المؤمن الشيعي لكي ندلل على التعارض بين الدليل العقلي وبين الإيمان بالأمور الدينية والعقدية، ومنها العصمة. فعند الشيعة، لابد أن يكون الاعتقاد عن “دليل وبرهان”، بمعنى أن الدليل العقلي شرط لحصول الاعتقاد، أي أن هناك علاقة شرطية بين الدليل العقلي وبين الاعتقاد، في حين أن الإيمان لا يخضع للأدلة والبراهين العقلية وبالتالي لا يخضع لأهم صفة يتصف بها الدليل العقلي وهي “الشك”. غير أن مسؤولية المؤمن لاتكمن في التأكيد على حاجة الاعتقاد إلى دليل وبرهان، لأن ذلك سيحوّل الإيمان إلى شأن عقلي وموضوع بشري من صنع الإنسان، في حين أن الإيمان شأن غيبي لايستمد وجوده من الأرض بل من السماء، وبالتالي لابد من التفريق بين الموضوع البشري الأرضي والموضوع الغيبي السماوي.
وإذا كان هناك من يدّعي بأن من مسؤولية الأدلة العقلية أن ترد على الأسئلة المتعلقة بالاعتقاد الديني، فإن تلك الأدلة لابد أن تتغلغل في كل مناحي الاعتقاد، أي في المناحي الغيبية الإيمانية التي لا يمكن للعقل أن يجد لها موضع قدم. فالمؤمن لا يستطيع أن يثبت حقيقة الدين من خلال الأدلة والبراهين العقلية، لكنه لا يستطيع أن ينفي هذه الحقيقة من خلال الإيمان أو يدّعي بأنها كاذبة. فإذا استطاع أن يزعم بأن أدلة وبراهين وجود الله ضعيفة، ولم يستطع أن يرد على تلك الأدلة، فإن ذلك لايؤدي بالضرورة إلى زعزعة إيمانه. بمعنى أن قضايا الحياة لا يمكن تأكيدها من خلال الغيبيات، وهو ما ينفي وجود العصمة في الشأن النبوي الدنيوي، في حين لا يمكن إلا تأكيد الغيبيات في الشأن الإيماني والاعتقادي.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي