يتولد قلق عميق، وجودي إن صح التعبير، عن نوعين من الظواهر التي تبدو خارج التدبر السياسي والاهتمام الثقافي في آن. ثمة أولاً ظاهرة التغيرات المناخية التي تمثلت في السنوات الأخيرة في المشرق بحرارة لاهبة صيفاً وبنقص الأمطار في الشتاء والربيع. وقد تسبب تكرر احتباس الأمطار في سورية في السنوات الثلاث الأخيرة بنزوح مئات ألوف القرويين من منطقة الجزيرة (شمال شرقي البلاد) إلى ضواحي المدن الكبرى بحثاً عن أعمال بخسة تعيلهم، وتنذر أيضاً بتصحر أراضيهم المهجورة. وفي المقام الثاني هناك ظاهرة التزايد السكاني الانفجارية. في العام الماضي بلغ سكان البلاد نحو 23 مليوناً، متزايدين نحو أربعة أضعاف خلال أربعين سنة. وهو ما يتسبب بضغط شديد على الموارد العامة، المياه والأرض بخاصة، فضلاً عن فرص التعليم والعمل، ويساهم بالتالي في تدهور نوعية الحياة على نطاق واسع.
تبدو الظاهرتان «طبيعيتين»، لا سبيل إلى التحكم البشري بهما. يمكن المجادلة في أنهما ليستا كذلك. معلوم أن التغيرات المناخية مرتبطة بظاهرة الاحتباس الحراري المتولدة عن ارتفاع نسبة غاز الكربون في الجو بفعل أنشطة صناعية، تتحمل القسط الأعلى من المسؤولية عنها البلدان الأكثر تقدماً. إلى ذلك، تشارك في المسؤولية عن الجفاف في منطقة الجزيرة السورية سياسات مائية محلية أسرفت في استنزاف المياه الجوفية في فترة التوسع في زراعة القطن منذ خمسينات القرن العشرين وحتى وقت قريب. وكذلك الحكومات التركية المتعاقبة التي تسببت سياستها المائية في جفاف أنهار في المنطقة نفسها. فضلاً عن السياسات السورية التي لطالما أهملت المنطقة الأغنى بالموارد في البلاد، لكن الأدنى نمواً والأقل حظوة بالاستثمارات العامة، وقلما اهتمت بتطوير مهارات سكانها العرب والأكراد، أو بممارسة نوع من التمييز الإيجابي الضروري لمصلحتهم. ومثل ذلك ينطبق على التزايد السكاني. فهو متولد عن تحسن الخدمات الصحية، مع بقاء الذهنيات وأنماط الحياة من دون تغيير يذكر. وكذلك مع الامتناع العام عن «أشكلة» الظاهرة… فلا السلطات تهتم بالأمر، ولا الثقافة والوعي العام في البلد يوليان الموضوع اهتماماً يستحقه، أما المفاهيم الدينية فتبدو مواتية لتشجيع تزايد السكان والتحفظ على أي مساع موجهة نحو ضبط النسل. القصد أن الظاهرتين المناخية والسكانية ليستا طبيعيتين. إنهما ظاهرتان بشريتان وتاريخيتان، في منشئهما كما في المعالجات المحتملة لهما. لكن بفعل الافتقار إلى أطر عالمية لا بديل عنها لمعالجة فاعلة للمشكلات المناخية، وبتأثير تواضع مستوى الفاعلية المحلية التي يمكن حشدها في مواجهة نوعي المشكلات في الحاضر والمدى المنظور، تكاد الظاهرتان تمسيان من نصاب الطبيعة الذي لا يمكن فعل شيء في مواجهته. ومن هنا بالذات ينبعث «القلق الوجودي» الذي يحاكي ما يثيره التفكير بنهاية العالم أو بفنائنا الذاتي من رعدة في أعماق النفس. يرجح أن يستمر التزايد السكاني بوتيرة عالية بحيث يبلغ السوريون نحو 30 مليوناً عام 2025، ولا تلوح في الأفق معالجات مضمونة تحول دون توسع التصحر، أو هذا الضرب المفزع من فناء الأرض. وبالمثل تبدو محدودة جداً فرص التحول نحو سياسات عامة جديدة، داخلية التوجه وموجهة نحو معالجات أكثر فاعلية للمشكلات البيئية والديموغرافية (والاقتصادية). عدا عن عوائق معروفة تتمثل في أولويات الاهتمامات الرسمية، إذ يهيمن لدينا مفهوم ضيق للسياسة يضع القضايا المشار إليها خارج اهتمامه. وعندما نتكلم على مفهوم مهيمن، فإننا نتكلم على الثقافة. ثقافتنا في سورية وفي العالم العربي تقصر مفهوم السياسة على مسألة السلطة والصراع على السلطة. هذا يجعل السياسة صراعاً محضاً، ويقوض مفهوم الصالح العام، فلا تبقى ثمة أرضية للتسويات والحلول الوسط والتنازلات المتبادلة، مما لا يستقيم اجتماع بشري معافى من دونه. ولعل المفهوم هذا هو الأصل في تحول السياسة إلى ميدان طبيعي، بل قدري، تخاض فيه صراعات إلغائية، يحظى الفائز فيها بالسلطة كلها طوال الوقت. السياسة هنا ليست فاعلية توسيع نطاق الفاعلية البشرية على حساب «الطبيعي» والقدري، بل هي جزء مما هو طبيعي وقدري. وبدل توسيع ملعبها وجلب قضايا أكثر إليه، يحرك «السياسة الطبيعية» نازع متأصل إلى تضييق الملعب وتقييد الدخول إليه. هذه سياسة لا سياسية، هشة أمام العنف، لا يحول دون وقوعها فيها كل مرة غير عجز أحد طرفي الصراع بفعل عنف سابق.
إن لم تفاقم الصفة «الطبيعية» للسياسة المشكلات «الطبيعية»، من نوع التزايد السكاني والتصحر، فإنها لا تجد ما تفعله حيالها. ولعل تلك الصفة ذاتها تسوقها نحو كل ما هو «طبيعي» من عشيرة وقرابة وعصبية ودم، وأصل وماض وميراث. وهو ما يقترن بتدهور قيمة الثقافي والصنعي والاكتسابي مما هو محقق في محيطنا.
في المقابل، أولُ معالجة المشكلات الطبيعية هو إخراج السياسة ذاتها من نصاب الطبيعة إلى نصاب الثقافة والحضارة. وقد يكون من شأن الاهتمام بالمشكلات «الطبيعية»، المرشحة فقط للتفاقم، أن يحفز تفكيراً متجدداً في مفهوم الخير العام، يتسع ليشمل نطاقات البيئة والسكان والجغرافيا (والاقتصاد… واللغة). وكل ذلك يندرج في حاجة تبدو لنا ملحّة إلى توسيع مساحة ما يمكن التفكير فيه أو مواجهة «غزو اللامفكر فيه» على ما عبر حسام عيتاني قبل أيام («الحياة»، 17/8/2010)، ومن ثم توسيع نطاق ما يمكن التأثير فيه. هناك ثلاثة قطاعات من شأن تنظيم تفكيرنا في شأنها أن يكون مؤشراً تحررياً. قطاع «الماضي» (الثقافة واللغة والدين) وترتيب العلاقة معه بما يتوافق مع مزيد من استقلال الحاضر، وقطاع «الخارج» أو النظام الدولي بما يعود على الداخل باستقلال أوسع، وقطاع «الطبيعة»، أو مشكلات البيئة والسكان والجغرافيا بما يترجم الاستقلال إلى تحكم ذاتي أكبر. فضلاً عن قطاع الدولة والسياسة الذي تفرط ثقافتنا تلقائياً في الانشغال به. ولعل من شأن توسيع مجال التفكير على هذا النحو أن يتيح فصل السياسة عن السلطة، وتطوير «سياسة ثقافية» (عكس سياسة طبيعية) لا سلطوية، فتكون أيضاً خطة بديلة عن الجهود الفاشلة لانتزاع السياسة من نخب السلطة الغارقة في أنانيتها وضيق أفقها. يستأهل التخيل، والتفكير والتجريب الذهني، أن ندعهم وسلطتهم، وأن نحاول بناء تصورات أوسع للعالم وللسياسة… وللثقافة.
نُشِر في “الحياة”
في «السياسة الطبيعية» والمشكلات غير السياسية
سوري قرفان-
أفكار جديده للتعامل مع الواقع العربي تستحق التمعن