لنتفق بداية على معاني حرية التعبير وحرية المعتقد والتخوين.
أن حرية التعبير مكفولة في الدستور اللبناني بحسب المادة 13، كما يكفل حرية المعتقد. هذا يعني أن حرية التعبير مطلقة مبدئياً، لكنها مقيدة بعدم التعدي على حقوق الآخرين أو النظام العام. ويعد التخوين خرقاً لحرية التعبير هذه. فهو ليس مجرد “رأي سياسي”، بل هو اتهام ضمني بالعمالة، ما يعرّض الشخص المتهم للخطر الأمني أو الاجتماعي. بالتالي، هو يتجاوز التعبير إلى اعتداء على الحق بالسلامة والكرامة وحرية المعتقد السياسي.
تعرّض البطريرك الراعي لهجوم كبير من المفتي قبلان، لمجرد دعوته لتطبيق الدستور وتسليم السلاح للدولة اللبنانية.
اعتبر المفتي أحمد قبلان، أن “سلاح حزب الله وحركة أمل هو سلاح الله، ولا توجد قوة في الأرض تستطيع نزع سلاحه”، ورأى أن قرار نزع السلاح “مجنون ويخدم مصالح إسرائيل”، مضيفاً: “لن يكون سلام أبداً مع قتلة الأنبياء وخونة الشعوب ومحتلي الأوطان”.
إذاً، المعركة الحالية ليست فقط حول السلاح، بل أيضاً حول من يملك الحق في وصف الآخر بالخيانة، وكيف يمكن للمجتمع المدني اللبناني ان يحمي حرية التعبير من أن تتحوّل إلى أداة قمع.
هذا أثار الرد أثار ردوداً واسعة. ان الربط بين سلطة الدولة وسقوط البلد، واعتبار تسليم السلاح تفريطاً في الحقوق، تسببوا بانعطافة خطيرة، وابتعاداً عن خطاب يُميّز بين المقاومة كحق والسيادة الوطنية كواجب والتي لا يجب أن يُعتدى عليها باسم الإيمان.
وفي دعوة البطريرك الراعي إلى حصر السلاح بيد الدولة، تأكيد أن “من لا يؤمن بالدولة اللبنانية وبالجيش الواحد والسلاح الوحيد فذاك شأنه”، وأنه لا يريد الذهاب إلى إسرائيل، بل يسعى إلى تفسير الحرية السياسية ضمن سياق سيادة الدولة .
لقد وظّف المفتي الإيمان في المعركة السياسية. واستخدم الدين أو اسم الله لتبرير السلاح، ما يحَّول النقاش إلى نوع من التضليل: يصبح التساؤل عن السلاح مسألة إيمانية لا سياسية، فيتحوّل الخلاف إلى تخوين، ويمنع الحوار العقلاني.
الدستور اللبناني يحمي حرية المعتقد. لكن ما نراه هو استغلال لهذا الحق للإيحاء بأن من يشكك في سلاح حزبي معين كأنّه كافر أو خائن. هذا الخلط يخرج عن إطار حرية المعتقد إلى التحكم والسيطرة على الرأي الآخر، بل ومحاكمته.
ان التمييز بين السياسات والمعتقدات ضروري. يمكن ان يختلف الناس في لبنان في السياسة والطروحات الدفاعية. لكن التوجّه إلى مقاربة السياسة عبر المعتقدات يفسد النقاش العام. المطلوب فصل نقاش السلاح والسيادة عن الطابع الديني.
أي خطاب ديني أو سياسي يحوّل السلاح إلى “واجب عقائدي” أو يصف المعارض بـ”العميل”، هو عملياً تجاوز لهذه النصوص وخرق مباشر للدستور.
من خلط الإيمان بالسلاح إلى مصادرة التعبير
في المرحلة السابقة، كان الإشكال الأساسي هو استغلال المعتقد الديني لإضفاء قداسة على السلاح، بحيث يُقدَّم كجزء من الإيمان لا كخيار سياسي.
اليوم، انتقل النقاش خطوة اضافية: التخوين صار أداة لقمع حرية التعبير، عبر وصم كل اعتراض بالخيانة أو العمالة.
هذا الانتقال يعني أن المواجهة لم تعد فقط مع من يحتكر السلاح، بل أيضاً مع من يحتكر الحق في الكلام.
الممانعة لا تكتفي بالسلاح العسكري، بل تستخدم التخوين كسلاح سياسي.
وهذا خرق مزدوج:
خرق لحرية التعبير لأنها لا تعترف بحق الآخر في الاعتراض.
وخرق للمساواة أمام القانون، لأنها تحتكر الوطنية وتوزّع شهادات “العميل” و”المقاوم”.
فهناك فرق شاسع بين حرية التعبير والاعتداء على الآخر:
التعبير المشروع: أنا أؤيد أو أرفض السلاح، وأنا أطرح رؤيتي لمستقبل لبنان، ومن حقي أن أنتقد المرجعيات السياسية أو الدينية.
الاعتداء المرفوض: أن أصف المختلف بأنه “خائن” أو “عميل”، لأن ذلك يُعرّضه للنبذ وربما الخطر الجسدي، ويحرمه من حقه الدستوري في الرأي.
التخوين هنا يشبه خطاب الكراهية الذي تُعاقب عليه القوانين في دول عدة، لأنه يقوّض التعددية ويهدّد السلم الأهلي.
المطلوب حماية الدولة، لا ان تتحكم الأديان بالمجال العام. الدولة تبحث عن تعزيز سيادتها عبر مؤسساتها، وليس فرض رقابة على المعتقدات. عندما يخاف بعض الفاعلين السياسيين من رؤية الدولة كمرجعية حصرية للقرار، يصبح الخطر على الدولة كبيراً.
النقاش السياسي في لبنان يجب أن يبقى داخل إطار الدولة المدنية، حيث السيادة والجيش والمؤسسات هي المرجعية الأساسية، وليس خطوط التوتير الطائفي أو الشعارات الدينية الخطيرة مثل “سلاح الله”. حرية المعتقد يجب أن تظل ملكاً لكلّ لبناني، ولكن السياسة يجب أن تُدار بعقلانية، وبعيداً عن توظيف الدين لتخوين من يختلفون في الرأي.
مقارنة بتجارب أخرى
في أوروبا، قوانين حرية التعبير تميّز بين الرأي (المشروع) وخطاب الكراهية أو التحريض (الممنوع).
في جنوب أفريقيا بعد الأبارتهايد، كان يُعتبر أي خطاب يضع جماعة في خانة “الخيانة” تهديدًا للمصالحة الوطنية.
صوت لبنان
